*يوسف بزي
بصراحة، لا تبهجني أخبار ضرب دبابة إسرائيلية أو تفجير عبوة أو إطلاق قذيفة ياسين، أوقنص جندي إسرائيلي. فهي كلها على “بطوليتها” لا تزن شيئاً أمام الثمن الذي يدفعه الفلسطينيون. اللاتناسب الفظيع كاف للتساؤل عن جدوى هذا الوضع الجهنمي. ومرة أخرى، للتساؤل عن تعريف “الانتصار” هنا، وما هي “الهزيمة”؟
الذين يهللون لمقتل بضعة جنود إسرائيليين، باعتبار أن دولتهم ومجتمعهم شديدا الحساسية تجاه خسارة أرواح جنودهم أو مدنييهم، فيما تحكمنا عقيدة معممة تفيد أن بطون أمهاتنا ولّادة، وبدل الضحية الواحدة يولد عشرة أحياء جدد.. تحيلنا إلى كائنات عديمة الحساسية تجاه فرادة كل نفس حيّة. وهذا ما يجعل صراخنا وغضبنا إزاء المجازر المتتالية يتحول إلى زبد سرعان ما يتبدد، تحت طيات موجة أخرى من الموت الجماعي.
من غير المقبول هذا الاعتياد على اللاتناسب بين ما نوقعه بالعدو وما ينزله هو فينا من موت جماعي وخراب عميم. أن نجعل من مقتل أكثر من عشرين ألف فلسطيني مقابل مقتل عشرات الجنود الإسرائيليين مجرد “ملحمة بطولية”، أمر يستدعي تساؤلاً عميقاً حول قيمة حياتنا وتقديرنا لأنفسنا. بل وأيضاً عن مدى مسؤوليتنا في استسهال الإسرائيلي بإطلاق العنان لإجرامه واستخفافه التام بأرواح مدنيينا واسترخاصه حيواتنا.
وبصراحة أيضاً، لا يرضيني هذا “التعاطف” الإنساني الذي يظهر في بعض الإعلام وفي التظاهرات هناك في شوارع مدن الغرب، من غير أن يصير “سياسة” نكون نحن أيضاً شركاء فيها، ومن دون أن يسهم هكذا تعاطف في الإجابة عن السؤال المفزع: ما مصير سكان غزة؟ كيف يمكن بعد هكذا نكبة إعمار ما تهدم؟ وهل سيكون هناك أصلاً مجال للإعمار وإعادة السكان؟
قبل ذلك، هل ما وقع بغزة هو ثمن مكافئ لتحصيل هكذا “تعاطف”؟ وأين يصرف كل هذا في الطموح الأول: إزالة الاحتلال وتحقيق الاستقلال.
بالنسبة لي، أسوأ ما يصيب الفلسطينيين (ويصيبنا كشعوب منكوبة) أن نصير وحسب “أغنية” أو أقصوصة تربوية أو درساً تاريخياً وعبرة غابرة. ليس مغرياً أن نكون عينة في متحف المظالم البشرية، حادثةً تدعو للتأسف ودرساً للتأمل.
وبهذا المعنى، ليس مكسباً أن تقع “نكبة ثانية” فقط لنبرهن أننا أصحاب حق ومظلومون. ليس مكسباً أن يموت آلاف الأطفال وآلاف النساء والأمهات، كي نبرهن مجدداً أن الفلسطينيين ضحايا. ليس طموح الفلسطينيين أن يبقوا هكذا منذورين للنكبات والموت والتهجير كما لو أنه “امتياز” تاريخي.
هل يرضينا ويكفينا أن يصاب العالم بـ”وخزة ضمير”، مقابل كل الخسارات الفادحة والتي يبدو أن لا تعويض لها، تماماً كما خسارات 1948 و1967..
أبعد من ذلك، ما هو الموعود به الفلسطيني في غزة وفي الضفة بعد “ملحمة طوفان الأقصى”؟
حتى الآن، وبغض النظر عن مصير يحيى السنوار وحركة حماس (والجهاد الإسلامي)، يبدو أن الحرب أبعدت “حل الدولتين” سنوات ضوئية إضافية، كما أن “حل الدولة الواحدة” بات أقرب إلى المستحيل. أما التحرير من النهر إلى البحر فقد بات شعاراً تستثمره إسرائيل (تحت عنوان: إبادة اليهود)، أكثر مما نستثمره نحن كمشروع للتحرر القومي.
كان شعار “من النهر إلى البحر” أقرب إلى مشروع تحرير العرب واليهود معاً من “الصهيونية”، وحلم بدولة ديموقراطية (وأحياناً ديموقراطية اشتراكية). أما اليوم، وعبر الإسلام السياسي (على المثال الإيراني) فليس الشعار عملياً سوى هذه المذبحة التي نشاهد فصولها الدموية.
وبصراحة، المنحازون إلى القضية الفلسطينية في العالم، لديهم مشكلة أصلية وعميقة -وتم التعبير عنها مراراً وتكراراً- مع الممثلين الحاليين للشعب الفسطيني: السلطة الجالسة في رام الله، حماس، الجهاد الإسلامي.
إنه مأزق فلسطيني، شاركت في صنعه إسرائيل وبعض الدول العربية، وإيران خصوصاً.
يا ليت يتاح للفلسطينيين بعد كل تضحياتهم أن يمثلوا أنفسهم ويعبّروا عن تطلعاتهم. إنهم يستحقون أملاً سياسياً رأيناه في الكثير من الوجوه وسمعناه عبر الكثير من الأصوات.
هذه النخبة الفلسطينية معروفة، تضم مفكرين وأطباء وحقوقيين ونشطاء سياسيين ودبلوماسيين ومناضلين عنيدين.. وأسماؤهم متداولة اليوم.
كل هذا.. من أجل مقاومة جديدة، غير عدمية، وليس أبداً من أجل الاستسلام.
*نشرت في المدن الالكترونية يوم الخميس 2023/12/28
Leave a Comment