أعرف شحاذاً سمجاً، عندما يقترب من أحدهم بابتسامة مريعة، تراه يطلب المال كمن يسترد ديناً متأخراً. وقد يغضب إن لم نعامله باحترام وتوقير مناسبين. فنكون عديمي الأخلاق، ناكري الجميل، إن لم ننفحه المال.
أعرف شحاذاً آخر، يضع على صدره علماً لبنانياً، مردداً على المارة عبارته: “أنا لبناني”، ظاناً أنه هكذا يميز نفسه عن بقية الشحاذين الذين يعتبرهم من “النوَر” أو “الغرباء” الذين لا يستحقون التعاطف، الجدير به وحده. وهو أيضاً يفترض بإشهاره لوطنيته، أنه يمتحن وطنيتنا وشعورنا بالواجب، فتكون شحاذته للمال برهاناً ساطعاً على الوحدة الوطنية. وعلى الأرجح، يعتبر أن صفته “اللبنانية” تمحو عنه تلقائياً عار الشحاذة.
اليوم نعرف شحاذاً من نمط جديد، “شحاذ ممانع” بمنصب وزير. وهو يجمع خصال الشحاذَين المذكورين آنفاً، مضافاً إليها زبدة فكر الممانعة وأخلاقها وفلسفتها. فهو أولاً، يأبى في لحظة الاستعطاء ومد اليد الذليلة، أن يُقال عنه شحاذ. وهو ثانياً، يقلب المشهد (كعادة الممانعة) معلناً أنه هو المتكرّم والمتفضّل والسخّي والنافح والمعطاء. وهو ثالثاً، يصنع مفارقة إضافية صارخة، بأن يمجّد الشحاذة نفسها بوصفها عنواناً للشرف.
وزير الكهرباء، في لحظة انعدام الكهرباء، في لحظة نفاد الطاقة، في لحظة الفشل الكلي والمتكرر، في لحظة فضائحية للمرة الألف، في لحظة عار شامل لبلد بأكمله، في لحظة ذروة التفاهة السياسية والاستقالة المشينة من أي مسؤولية، في لحظة حكومة شبحية.. يخرج موفور الثقة مبتهجاً ضاحكاً، ثم مستنكراً سؤالاً بديهياً طرحته عليه صحافية بما بمعناه: “لماذا وصل بنا الحال أن نشحذ الفيول من العراق أو الجزائر لننتج الكهرباء؟”. ثم يصفعنا بنظرية شائعة في ثقافة الممانعة تقلب الكارثة أو المأساة إلى نعمة إلهية وانتصاراً مبيناً، ومصدر عز وكرامة.
من دون تردد، ومن قلب العتمة، صدح الوزير: لا.. نحن لا نشحذ، نحن نعطي ونوزع كرامة.
والكرامة نور وإشراق وضياء وفخر، كما نعرف. وبما أن “الحياة وقفة عز فقط”، فلا داعي للكهرباء كلها إن كنا سنخسر الكرامة.
ثم أن الوزير، توسع شارحاً نظريته: بما أننا “نوزع كرامة”، فمن يهبنا ويعطينا نفطاً أو فيولاً بلا مقابل، إنما يكسب شرفاً. بل ويمكننا أن نمننه قبولنا هبته، ونجعله من المصطفين ونرفعه إلى مرتبة شريكنا في الشرف والكرامة.
هكذا، تتحول الوزارة (والدولة كلها) المفلسة، إلى منجم وكنز وخزينة موفورة كرامة. بل وتتحول العتمة إلى نعمة كبرى نصدّر منها معاني العزة والافتخار. أما الذين يشتكون من الظلام فهم فاقدو البصيرة، عميان لا يعرفون عماهم.
والوزير إياه، بصحبة رئيس الحكومة ومدير عام شركة الكهرباء، وحاكم مصرف لبنان بالإنابة، ووزير المال.. وخلفهم على نحو مستتر، “أوصياء” وزارة الطاقة، ورئاسة مجلس النواب، ووسطاء من صنف ضباط كبار، وزعماء سياسيون من الصف الأول.. جميعهم، شركاء معاً، متخاصمون دوماً، ومتواطئون باستمرار، يغرقوننا يومياً بأرقام وموازنات ووقائع صفقات ومناقصات ومعلومات متناقضة وغامضة حصيلتها النهائية: صفر كهرباء.
وهذا الصفر الشاسع أتى بعد عمليات حسابية شيطانية ابتلعت عشرات المليارات من الدولارات.
وكالعادة، لا أحد مسؤولاً.
وإزاء الصفر الظلامي، هناك تفسير جاهز، قاله وزير الطاقة بمرح وخفة في فيديو مصوّر، بدا فيه كأنه على وشك الرقص طرباً بكلماته: إنه الحصار الأميركي يا عزيزتي.
بهذه الجملة السحرية ينكشف الغيب وينتهي كل تناقض وتظهر الحقيقة ساطعة كنور الشمس.
إنه “الوضوح” الذي تمنحنا إياه ثقافة الممانعة، والتي تجعلنا ونحن تحت الأنقاض وفي العتمة، نهنئ أنفسنا بما آل إليه مصيرنا.
وزير الكرامة يستطيع اليوم أن يتحدى إسرائيل أيضاً، صارخاً: أتهددوننا بإعادتنا إلى العصر الحجري؟!
* نشرت على موقع المدن الالكتروني بتاريخ 22 آب 2024
Leave a Comment