علي نور الدين*
في السجال بين باسيل والنوّاب الذين أبعدهم أو فصلهم من كتلته، يصعب العثور على فكرة سياسيّة واضحة تبرّر الخلاف الحاصل. أي بمعنى أوضح، لم يقدّم الطرفان حتّى اللحظة ما يفسّر اختلافهما على خيارات استراتيجيّة. ما يضع المسألة بأسرها في إطار صراع النفوذ على الحالة العونيّة ومآلها. وجهة النوّاب المفصولين أو المبعدين، تحتاج أصلًا إلى هذا الغموض والرماديّة في السياسة، خصوصًا إذا كنّا نتحدّث عن “تجمّع نيابي وسطي” يملك هامش البيع والشراء مع الجميع. والتيّار اختار أصلًا التعامل مع هؤلاء بوصفهم “جبهة مُشاغلة” تحاول استنزافه تنظيميًا، بعيدًا عن أي نقاش فكري أو سياسي عميق.
نبش قبور لجنة المال والموازنة
ثمّة استثناء وحيد برز خلال تلك النقاشات، حين قرّر رئيس الجمهوريّة السابق ميشال عون نبش القبور، والتحسّر على فرصة الإصلاح الضائعة خلال عهده. إبراهيم كنعان، حسب عرّاب التيّار الأوّل، هو الذي حمّل العونيين شعبيًا وزر عدم إقرار القوانين الإصلاحيّة، وهو الذي لعب مع آخرين دورًا في تطيير الكابيتال كونترول وتهريب الأموال من النظام المصرفي. بين سطور تلك الاتهامات، ثمّة خلاصة يستنتجها القارئ: لقد عمل كنعان لحساب المصارف في البرلمان، وليس لحسابنا.
حملت التهمة القاسية ما يكفي من لؤم، لإقحام كنعان في زوبعة من الردود والردود المضادّة، بما في ذلك السجال الذي نشب بينه وبين وزير العدل السابقة ماري كلود نجم، ثم مع رئيس الحكومة السابق حسّان دياب، ومن بعده بعض النوّاب الآخرين.. وهكذا دواليك. ولم تنتهِ سلسلة الاتهامات -المُعيبة والصائبة جدًا- بحق كنعان حتّى لحظة كتابة هذه السطور. لقد أخرج الجميع غليلهم على كنعان، من دون أن يتورّطوا في تبييض صفحة باسيل أو الدخول في سجالات التيّار الداخليّة.
لا يوجد ما يحشر كنعان أمام الرأي العام أكثر من استعادة الدور المشبوه الذي قام به في لجنة المال والموازنة عام 2020. وهو قام بالفعل بما يكفي من ارتكابات، ليحمل كثيرون النقمة في قلوبهم على كنعان. ثمّة ما يكفي من هياكل عظميّة في قبر تلك اللجنة، تمامًا كما يقول المثل الإنكليزي الشهير عند الإشارة إلى المُذنب الذي يخفي خطاياه، بانتظار أن يبتزّه بها أحدٌ يوما ما: There are skeletons in his closet. في خزانة إبراهيم كنعان الكثير منها.
غير أنّ ردود كنعان، في الفيديوهات المصوّرة على صفحاته، حملت رسالة واحدة للعونيين: لقد قمنا بكل شيء معًا، وكان ذلك لحسابكم. ما يحصل اليوم، يدينكم كما يدينني. أجاب بالحرف: هل تريدون أن نعتذر من فؤاد السنيورة؟! ولم يقلها، لكن المستمع بإمكانه أن يُكمل الجملة وحده: “نحنا دافنينو سوا”. العظام التي تتحدثون عنها، هي لكم أيضًا.
مناورات كنعان في زمن الجرائم الماليّة
من يعرف إبراهيم كنعان، يدرك جيّدًا براعته في المناورة. هو امتلك هذه الموهبة، في زمن الجرائم الماليّة، ووضع مناوراته في خدمة النخب الماليّة والمصرفيّة، في عزّ الانهيار. يمكن لهذه المناورات أن تتلاعب بالرأي العام، لكنّها أيضًا مثيرة لاستفزاز كل من يتابع تفاصيل المشاهد المالي عن كثب. ربما لهذا السبب، اكتشف كنعان –فور إثارة المسألة من قبل عون- أن هناك قائمة طويلة من الحانقين عليه وعلى الأدوار التي قام بها.
ذات يوم، وبُعيد إقفال المصارف وانكشاف أزمتها، سُئل كنعان عن مسألة الكابيتال كونترول، بصفته رئيسًا للجنة التي يُفترض أن تصيغ وتناقش مشروع القانون. امتعض كنعان فورًا: ماذا عن الثقة بالمصارف، والنظام الاقتصادي الحر؟ في تلك المرحلة، كان كنعان –وتمامًا كجمعيّة المصارف ورياض سلامة- جزءًا من تيّار يسوّق مخاطر وشرور الكابيتال كونترول، إلى حد صراخه في أحد المقابلات التلفزيونيّة: لن أمرّره. اليوم، صار كنعان من الذين ينظرّون ويذكّرون أن عدم إقرار هذا القانون بعد حصول الأزمة فورًا، كان سبب تهريب الودائع واستنزاف سيولة المصارف.
سُئل كنعان في 16 نيسان 2020 عن رأيه بخطّة حكومة حسّان دياب، فأجاب –وكان مُصيبًا هنا- أن الخطّة من مهام واختصاص الحكومة، واختصاص لجنته سيأتي بعد ترجمة الخطّة في مشاريع قوانين تُحال إلى مجلس النوّاب. غير أنّ لجنته سرعان ما نسيت دورها لاحقًا، وقررت أن تستحدث “لجنة فرعيّة لتقصّي الحقائق”، للبحث في أرقام الخطّة، من دون أن يُحال إليها شيء. تجاوزت لجنة كنعان دورها، ونسي كنعان تصريحه السابق.
وما إن دخلت اللجنة الفرعيّة إلى الحلبة، حتّى بان وانكشف دورها سريعًا: أصبحت المصارف –ومعها رياض سلامة طبعًا- شريكة في مناقشة أرقام الخطّة وخسائرها، على قدم المساواة مع الحكومة. وصارت لجنة إبراهيم كنعان حكمًا، بين حكومة، ونخب ماليّة تقاتل لعرقلة عمليّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي. وما تبنّته اللجنة الفرعيّة في النهاية، ليس سوى الخزعبلات وخلاصات أعمال التزوير في ميزانيّة مصرف لبنان، التي قام بها الحاكم السابق رياض سلامة. كان على إبراهيم كنعان أن يخجل ويعتذر بعد صدور تقرير التدقيق الجنائي، لكنّه لم يفعل طبعًا.
سقطت خطّة حكومة دياب، بدل أن ينتظر المجلس مناقشة –وتحسين وتطوير- مشاريع القوانين التي ستنتج عن هذه الخطّة. ثمّ جاء دور التدقيق الجنائي في مصرف لبنان، فقام كنعان بكل ما يلزم لعرقلة إقرار التشريعات التي تسهّل هذا المسار. حين احتاج لبنان تعديل قانون السريّة المصرفيّة، تبنّى كنعان في البرلمان “قراراً” لا تتجاوز مفاعيله حدود التوصية. ثم حين تم تعديل القانون، اعترف أن “القرار” السابق كان محدود الفعاليّة. وفي كل ذلك، كان كنعان يناور، ثم يقول الشيء ونقيضه، ولا يخجل.
تطول لائحة المناورات ولا تنتهي، ولم يدخل ملف إلى لجنة المال والموازنة إلا وخرج بما يرضي اللوبي المصرفي إياه. لقد كانت اللجنة خصمًا لمصالح اللبنانيّين منذ أولى لحظات الانهيار. وهذه مسألة يُدركها كل اقتصادي تابع تفاصيل الملفّات التي تم تحريكها –وتلك التي تم دفنها- داخل اللجنة. وكلما صرخ كنعان مدافعًا عن نفسه، اضطرّ للمناورة أكثر، واستفزّ كل من يتابع هذه الملفّات أكثر!
التيار شريك في الجريمة
كل ما سبق ذكره، لا يضع جبران وتيّاره –وعون نفسه- في موقع الضحيّة، الذي تحمّل وزر ارتكابات كنعان وهياكله العظميّة في المجلس النيابي. صحيح أنّ عون استند على جناح “إصلاحي” داخل حكومة دياب، جسّدته وجوه مثل ماري كلود نجم وغادة شريم، كما عيّن –في بعبدا- فريقاً من المستشارين الذي يدعمون هذا التوجّه. غير أنّ هذا الجناح خاض معاركه منفردًا، من دون أن يمثّل أو يجسّد رغبة “التيّار” نفسه. لقد كان التيّار في مكان آخر كليًا.
البحث في تصريحات وخطابات جبران باسيل، لا يسعف في العثور على مواقف تدعم الإصلاحيين في بعبدا وحكومة دياب بشكل واضح. ثمّة “موجات” من الاتهامات الموجهة إلى رياض سلامة، والتي كانت تُثار بشكلٍ مفاجئ، ثم “تنام” من دون أي سبب مفهوم. لكن في الموضوع المالي، لم يحسم يومًا جبران باسيل موقعه بشكل واضح، وخصوصًا في الملفّات التي تخص عمل لجنة المال والموازنة. وكتلة لبنان القوي بمجملها، كانت في صف كنعان في هذه الملفّات، ولم يعارض باسيل ذلك.
لقد كان باسيل يستخدم الطرفين معًا. ثمّة جناح إصلاحي يمكن استخدامه لمغازلة المجتمع الدولي، والضغط على الخصوم السياسيين محليًا، وتحصيل مكاسب معينة من رياض سلامة قبل انتهاء ولايته (في ملفات الدعم مثلًا؟). وثمّة جناح في مجلس النوّاب، مخصص للمهام القذرة، ونسج التسويات مع “الشركاء” في الداخل. يمكن أن تُنتج التسويات هياكل عظميّة في خزائن نوّاب محددين، مثل إبراهيم كنعان، ويمكن أن نبتزّهم بها لاحقًا، كما يحصل اليوم.
اللعبة ليست جديدة، وتجربة التيّار مع وزراء “إصلاحيين” سابقين مثل شربل نحّاس ومنصور بطيش تُذكّر بذلك. ومع مرور الزمن، تطول قائمة الإصلاحيين الذين استغنى عنهم التيّار، بعد استنفاد ما يمكن تحصيله من تجربتهم. وتطول كذلك قائمة المُبعدين أو المبتعدين، الذين امتلأت خزائنهم بالهياكل العظميّة، كحال كنعان. تورّط هؤلاء في ملفّات شائكة، مثل العمل لحساب المصارف، يقلّل من خطرهم بعد إبعادهم. وهذا جزء من اللعبة أيضًا!
* نشرت على موقع المدن بتاريخ 3 ايلول 2024
Leave a Comment