بول طبر
استراليا 19 شباط 2025 ـ بيروت الحرية
هل من الممكن تبني المباديء الليبرالية والمبدأ الديموقراطي في العمل السياسي، وفي الوقت نفسه أن ندعو لإلغاء الإستغلال الإقتصادي والتحكم الإجتماعي بالإنسان؟ أي التخلي عن اقتصاد السوق والتمسك بالدولة الديموقراطية والليبرالية؟
سؤال مرده عدة هواجس، لا بل حقائق دامغة. أولاً، سقوط التجربة الإشتراكية التي جسدها الإتحاد السوفياتي وملحقاته. وثانياً، التفاوت الهائل والمستمر في توزيع الثروة المنْتَجَة في البلدان الرأسمالية الغربية، رغم اتساع حجم فئات الطبقة الوسطى في تلك البلدان. التداعيات المدمرة لمبدأ التسليع والربجية الذي يتحكم باقتصاد السوق على الإنسان وعلاقته مع الآخرين وعلى الشعوب والبيئة. وأخيراً، نورد الإعتبار المنهجي والمعرفي من وراء السؤال أعلاه وهو ضرورة الإبتعاد عن النزعة الإختزالية في نظرتنا وتحليلنا للمجتمع بتكويناته الإقتصادية والإجتماعية والثقافية والسياسية.
بالنسبة إلى الهاجس الأول المتعلق بسقوط التجربة الإشتراكية السوفياتية، تشير هذه التجربة إلى أن فشلها يعود في جانب أساسي منه إلى غياب الحرية والديموقراطية كإطار يتم من خلاله بناء الإقتصاد والمجتمع الإشتراكي بمختلف جوانبه. وبدلاً عن ذلك، ساد الإستبداد والتسلط البيروقراطي على المنتجين باسم الدفاع عن مصالحهم وتحت شعار أنهم المالكون لوسائل الإنتاج وكل ما تنتجه أياديهم. إضافة إلى ذلك، تم فرض أحادية التمثيل السياسي وبموجب فكرة الحزب الطليعي (وكل ما عداه فهو حتماً منحرف وخائن للقضية الإشتراكية) وبموجبه تمّ تجريم نشوء أي حزب آخر، وتعطيل أي معارضة داخل الحزب الحاكم لديها نظرة واجتهاد مختلفين في كيفية بناء المجتمع الإشتراكي.
بكلام آخر، يستحيل بناء إقتصاد ومجتمع إشتراكي بسلطة ونظام غير ديموقراطيين، ومن دون حرية، لأن غياب الحرية والنظام الديموقراطي يولدان الإستبداد والفساد والتظلّم. “المحكومون” لهم الحق، كل الحق، في أن يختاروا ويراقبو ويحاسبو حكامهم وبصورة دورية وفورية وفق القانون وعبر إجهزة قضائية مستقلة. الإختيار الحر لممثليهم ومراقبة آدائهم ومحاسبتهم، كل ذلك يعود لحقهم في اختيار من يدير شؤونهم العامة وكيفية إدارتها، وحقهم في إدارة وتوزيع واستخدام ما ينتجونه.
أما فيما يتعلق بالهاجس الثاني المتعلق بالتفاوت الواسع في توزيع ثمار ما ينتجه العامل بمختلف فئاته، فإن هذه الظاهرة وما تخلفه من جوع وفقر وحرمان لا يجوز تبريرها بردها إلى عوامل ذاتية تتعلق بالفرد الفقير والمحروم، وبأن الحل بالتالي ذاتي أيضاً يتوقف على حسن قرارات هذا الفرد وسلوكه الشخصي. ذلك أن التفاوت في توزيع الثروة يعود أساساً إلى تعدي البعض (أصحاب الثروات والمصارف والتجار والصناعيين بمختلف أصنافهم، أي الفئات التي تتشكل منها الطبقة البرجوازية) على الفقراء وسلبهم القدر الأكبر مما ينتجونه. بكلام آخر، أن ذلك الفعل هو انتهاك صارخ وتعدٍ سافر على عمل الآخرين وحريتهم في التصرف بما ينتجونه من ثروات. لذلك لا يجوز أن تقف الحرية عند عتبة باب المصنع أو عتبة أي مؤسسة تقوم على العمل المأجور. فالحرية والمساواة بين الناس إما أن تكون شاملة (إقتصادية وسياسية واجتماعية) أو لا تكون.
والخطير بالنسبة إلى إقتصاد السوق، لا ينحصر فقط بنهب ثمار عمل المنتجين وما ينتج عنه من تفاوت هائل في توزيع الثروة بين فئات المجتمع وبين الشعوب، بل يطال أيضاً من حيث تداعياته العلاقات بين أفراد المجتمع والقيم التي تتحكم بها، وكذلك تفريغ المباديء الديموقراطية والليبرالية من محتوياتها الإيجابية والتي تهدف من حيث المبدأ إلى إلغاء الإستبداد والتسلط وتأمين الحرية والعدالة والمساواة بين جميع أفراد المجتمع. فمع تصاعد وانتشار التسْليع والربْحية كمحرك مفْصلي لاقتصاد السوق، يتم تغْليب قيم الربحية والنفعية في تأطير وتوجيه العلاقات بين أفراد المجتمع، ويتم بموجب هذه القيم تسطيح الأحاسيس الإنسانية وطغيان الرغبة في الإستهلاك العبثي (على سبيل المثال، أنظر تأثير وسائل الإتصال الإجتماعي على العلاقات بين أفراد العائلة والمجتمع عموماً، والتفلت الهائل في نزعة الإستهلاك لدرجة انفصالها عن تلبية حاجات الفرد وتحكم القيمة التبادلية في سلوك الفرد عند شرائه لسلعة ما، بدلاً من احتكامه بقيمتها الإستعمالية). والواضح أن طغيان هذه النزعة يخدم مبدأ الربحية المتحكم بألية عمل إقتصاد السوق، ويستمر كل ذلك رغم تداعياته المدمِّرة على البيئة وضرورة الحفاظ عليها وعلى اعتدال المناخ على كوكب الأرض.
أما بالنسبة إلى التأثير السلبي لاقتصاد السوق على الديموقراطية والدولة الليبرالية، فلا تعوزنا الشواهد الحية لما نراه في زمننا الحاضر من استخدام أصحاب البنوك والثروات المتراكمة لتلك الدول والقوانين الديموقراطية وتحويرها لخدمة مصالحهم الضيقة والخاصة. لا بل بلغ هذا التحكم بالدول الديموقراطية والليبرالية درجة مرتفعة بحيث تمكن رموز من فئة المتحكمين باقتصاد السوق من الوصول إلى مواقع رئاسية في تلك الدول. وكان آخرها وصول دونالد ترامب للمرة الثانية إلى سدة رئاسة الجمهورية في الولايات المتحدة الأمريكية.
بالطبع أمام هذا المشهد، لا يجوز “إلقاء الطفل مع الماء التي اغتسل بها”، أي لا يجوز التخلي عن مباديء الديموقراطية والنظام السياسي الليبرالي بسبب تطويعه لخدمة المتحكمين في الإقتصاد الرأسمالي السوقي. فبدلاً من ذلك، من الأفضل والضروري العمل على استبدال اقتصاد السوق بنظام اقتصاد اشتراكي لا يقوم على استغلال عمل المنتجين، ويلغي الربحية والتسليع كمحرك لانتاج الثروة. إن مكوَّنات المجتمع السياسية والثقافية والإقتصادية متمايزة، ولا يستقيم عملها إلا عندما تصبح تكاملية.
Leave a Comment