محمد حجيري
الثلاثاء 2024/04/02
هجانة فارس اشتي الحزبية
في استقراء المعنى اللغوي لكلمة الهجانة” نجد انها اشتُقت من “هجن” وتعني قبح وعاب، واستخدمت منذ العام 1601 بالانكليزية بمعنى “غير الطبيعي”، وقُصد بها طوال القرن السابع عشر، الميراث العرقي المختلط بين كيانَين من مصادر غير متجانسة، دولًا ومقاطعات، الإنتظامات/الأوامر السياسية. والهجانة أو الهجنة مفهوم ارتبط بأكثر من سياق وترتيب، وأكثر من مفكر، مثل هومي بابا الذي يعتبر أن الهجانة “يشير عادةً إلى خلق أشكال تثاقفية جديدة داخل نطاق الاحتكاك الذي يخلقه الاستعمار”.
أما الباحث فارس اشتي، فيسرد في كتابه “الهجانة في تشكّل الأحزاب السياسية الحديثة”(*) قراءة مغايرة أو مختلفة للسائد، ويواجه الواقع المأزوم بطرح مسألة تشكّل الاحزاب السياسية في المجال العربي بوصفه مثالاً للبلدان خارج المركز الرأسمالي، ويقدم سلة من التعريفات التي أطلِقت على الحزب السياسي، أبرزها تعريف يوهان كاسبار بلنتشلي بأنها “مجموعات اجتماعية حرة داخل الدولة تتحد من أجل العمل العام بروابط المبادئ والأفكار والطموحات السياسية الواحدة أو المتقاربة”، إضافة إلى ربطه وجود الأحزاب عبر التاريخ بالنشاط الإنساني للناس وللسلطة. ويقارن هذه الكتابات مع مثيلاتها في الأدبيات العربية، مع تتبع مصطلح الحزب لغوياً وتراثياً، وتدرّج مراحله وأصنافه.
ويرى اشتي أن فكرة الحزب السياسي الوافدة إلى العالم العربي نمت على أرضية هشّة هجينة في بناها المجتمعية القائمة على الإنتاج الزراعي والرعوي، ومحكومة في مجالها السياسي من السلطة الأبوية والسلطة النبوية، وكلها مرهونة بعلاقات الوﻻء والتبعية والاستبداد، تطويعاً وتطبيعاً، وبعيدة من مقومات الرأسمالية الغربية الحادثة، ليصل في الختام إلى الحديث عن لبِّ موضوع البحث، وهو الهجانة وحضورها في الأحزاب العربية، وأثرها في ضعضعة أهداف هذه الأحزاب، متناولًا بالبحث المفصّل حزبين أنموذجين في العالم العربي هما: حزب البعث العربي الاشتراكي، والحزب الشيوعي اللبناني.
لقد مال البحث الى استخدام مصطلح الهجانة تعبيراً عن الجديد في الحزبيات القائمة. فالهجانة كما يستخدمها في البحث، هي التمازج بين مكونين متباينين في السياق، والمكونات ضمن بيئة مجتمعية واحدة، تمازجاً يؤدي الى مكون جديد يباين كل منهما. فـ”الهجنة” تعني ذلك الفضاء الذي يحمل المعاني والآثار الثقافية، وفيه أيضا آثار المعاني والهويات الأخرى. فهناك هجنة وتقارب وتلاقٍ بين الثقافات، ولا توجد ثقافة نقية خالصة. أما الهجانة السياسية للحزب، فتفرضها بنيته المجتمعية، لكنها لم تمكنه من تجاوزها باتجاه تقدّم جماعات وحرية أفراده ورفاهيتهم وبناء دولتهم الحديثة.
وبمنأى من الجانب النظري والفكري للهجانة، هناك الجانب السيوسيولوجي الميداني. فالحزب الشيوعي اللبناني تبدلت ثقافاته وأطر الهيمنة عليه، بين تنظيمية ستالينية عمالية متشدّدة في الخمسينيات والستينيات، إلى عروبية قومية بعد 1968 ونوعاً من “اللبننة” إذا جاز توصيف الراحل كريم مروة، ودخل في “ميتافزيقيا المقاومة” خلال الحرب والمواجهة ضد اسرائيل. فبعدما أجبر على الاعتراف بتقسيم فلسطين، أواخر الأربعينيات، تنفيذاً للقرار السوفياتي، ورأينا القداديس لستالين من بعض مناصريه المسيحيين، وتراه أصبح يضع “المقاومة” في خانة أولوياته النضالية، وفي مسيرته انخرط في الدم الذي جعله يبتعد عن السياسة لصالح المبدأ، توسع جمهوره نحو الدائرة الشيعية.
واستند “البعث” إلى تنظيرات ميشال عفلق حول العروبة والاشتراكية، وهي تنظيرات قادمة من أوروبا. لكن “البعث” عاش تحولات تبعاً للأشخاص الذين وصلوا إلى سدة قيادته، فمرات شطح نحو “الترييف”، ومرات نحو “التعليم”، وأحياناً مال بعض قادته إلى “ماركسية معرّبة” تخاصم “الماركسية المسفيتة”. ونذكر في هذا السياق، ياسين الحافظ ورهطه. وللتذكير أيضاً، فإن الكثير من الماركسيين العرب، من اليساريين الجدد، هم في الأصل بعثيون، فواز طرابلسي نموذجاً. على أن “البعث” الذي انطلق من المدارس، انتهى الى الثكنات. أكثر من ذلك، فالحزب الذي رفع في سوريا شعارات كبرى، انتهى الى “حظيرة أسدية”، وفي العراق بعدما تحوّل إلى حزب صَدّامي في خياراتية العنيفة، لم يعد يجد جاذباً للمناصرين، فلجأ صدّام حسين إلى “أسلمته”، وأضاف “الله أكبر” إلى العلم العراقي، وراح يبحث عن سلالته التي يزعم أنها تعود الى الإمام علي. هكذا، في التأزم، انحدر صدّام نحو القبيلة والبلدة.
واذا أردنا توصيف الأحزاب في لبنان، فهي تختصر واقع الهجانة السياسية، من قومية أنطون سعادة التي شبكها مع أساطير وأواصر محلية وإقليمية، إلى كتائبية بيار الجميل العائلية والمارونية، وتقدّمية كمال جنبلاط الدرزية.
لا يدخل اشتي في التفاصيل الصغيرة للأحزاب، بل يركز خلال معالجته إشكالية الهجانة في الأحزاب العربية، على الأدبيات الأجنبية في علوم السياسة والسوسيولوجيا والتاريخ عن تشكّل الأحزاب السياسية متفاوتة المناهج، ثم مقارنتها بالأدبيات العربية التراثية والحديثة، لمحاولة إظهار تصوّر كلٍّ منهما لمفهوم الحزب وتشكّله. توصل المؤلف، في كتابه الهجانة في تشكّل الأحزاب السياسية الحديثة – المجال العربي أنموذجًا، إلى ربط تشكُّل الحزبية عمومًا والسياسية خصوصًا، بنزوع نخب وجماعات مكتفية اقتصاديًا إلى ضمان مصالحها وديمومتها. وميَّز بين الحزبية السياسية، بصفتها مؤسسة تحكم الصراع الثنائي على الإمرة، والأحزاب السياسية بصفتها تنظيمات تمثل فئات مجتمعية تسعى إما للاحتفاظ بمواقعها أو للمشاركة في الإمرة. ويصل المؤلف إلى نتيجة مفادها استحالة تكريس الأنموذج الغربي للأحزاب في العالم العربي.
(*) صدر عن المركز العربي
Leave a Comment