صحف وآراء مجتمع

نهاية الإنسانيات: الثانوية العامة في عالم نيوليبرالي

*شادي لويس

قبل أن تهدأ موجة الانتقاد لتصريحات الإعلامي المصري، تامر أمين، الداعية إلى إلغاء مناهج التاريخ والجغرافيا والفلسفة وغيرها من مواد محسوبة على علوم الإنسانيات، من مناهج الدارسة في مصر، أعلنت وزارة التربية والتعليم مقترحاً جديداً للثانوية العامة يتضمن دمجاً لبعض المواد وإخراج بعضها من المجموع. ولعل عدم ثقة المواطنين في الحكومة المصرية، وتشكيكهم الدائم في نواياها وفي كفاءة المؤسسات العامة وقراراتها، هو ما دفع إلى رد فعل أوّلي تميزه السلبية تجاه النظام الجديد، قبل أن يحتفي الكثيرون به، وبالأخص ميزة تقليل مواد الدراسة، ما يشكل تخفيفاً للضغط على الطلاب وأيضاً على ميزانيات أسرهم.

في العام 2019، بدأت حكومة جايير بولسونارو، المعروف بترامب الاستوائي، شن حربها النيوليبرالية في الأسابيع الأولى من الحكم، وكان سلاحها الأساس هو سياسات التقشف. كانت دراسات الفلسفة وعلم الاجتماع طليعة الأهداف. ففي أبريل/ نيسان من العام نفسه، استشهد وزير التعليم البرازيلي، أبراهام وينتراوب، بتقليص اليابان لأقسام الفلسفة وعلم الاجتماع، وقال إنه يفكر في القيام بالأمر ننفسه. كما أكد أن الفلسفة وعلم الاجتماع مخصصان للأثرياء الذين يستطيعون تحمل تكاليف الدراسة بوسائلهم الخاصة. ونالت تصريحات وينتراوب تأييد الرئيس البرازيلي في اليوم التالي، وذلك في تغريدة له في “تويتر” أثنت على خطة “إلغاء مركزية الاستثمارات في أقسام الفلسفة والعلوم الإنسانية” من أجل “التركيز على المجالات التي ستعطي دافعي الضرائب عائدًا على الفور، مثل العلوم البيطرية والهندسة والطب”.

ومع أن الحرب الثقافية بين اليسار واليمين البرازيليين، لها تاريخ طويل ومعقد في ساحة التعليم، والسياق يختلف بشكل جذري عن نظيره المصري، إلا أن ثمة منطقاً مشتركاً بين السياسات البرازيلية، وتصريحات تامر أمين المتعلقة بنبذ دراسة الإنسانيات والعلوم الإنسانية في المرحلة الثانوية-الفرع الأدبي، لصالح نظام تعليمي مرتبط بسوق العمل، ويكون معياره الوحيد هو العائد الاقتصادي. وتصبّ التصريحات الأسبق للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الحاضّة على دراسة البرمجة، في الاتجاه ذاته، وبالأخص في إشارته إلى الرواتب العالية الممكن تحصيلها من وظائفها.

إلا أن الهجوم على علوم الإنسانيات ليس مشكلة تتعلق فقط بدولة الجنوب ذات الموازنات العامة المتعثرة. ففي العام 2015، أرسل وزير التعليم الياباني، هاكوبون شيمومورا، خطاباً إلى كل الجامعات الوطنية والبالغ عددها 86 جامعة في اليابان، داعياً إياها إلى اتخاذ “خطوات نشطة لإلغاء كليات العلوم الاجتماعية والإنسانية أو تحويلها لخدمة مجالات تلبي احتياجات المجتمع بشكل أفضل”. وبالفعل، من بين 60 جامعة وطنية تقدّم دورات في هذه التخصصات، أكدت 26 منها أنها ستغلق أو تقلص كلياتها ذات الصلة، بناءً على طلب الحكومة. وجاءت تلك الخطوات كجزء من جهود أوسع لرئيس الوزراء السابق، شينزو آبي، لتعزيز ما سمّاه “تعليم مهني أكثر عملية يتوقع بشكل أفضل احتياجات المجتمع”.

وصلت اليابان متأخرة. فالعداء للإنسانيات كان قد انطلق في أوروبا والولايات المتحدة منذ عقود. مثالاً، نشر المؤرخ الاجتماعي البريطاني، جو موران، قبل عامين، ورقة بحثية طويلة بعنوان “الإنسانيات والجامعة: تاريخ موجز للأزمة الحالية”، يربط فيها بين تراجع علوم الإنسانيات في المدارس والجامعات البريطانية، وبين سياسات حكومة مارغريت ثاتشر النيوليبرالية خلال عقدَي الثمانينيات والتسعينيات. لكنه يعود بجذور المسألة إلى الخمسينيات، وإلى سؤال أشمل من الإنسانيات، يتعلق بالصراع الإيديولوجي بين اليمين واليسار البريطانيين حول جدوى توسع التعليم الجامعي ومن يتحمل كلفته. آخر دلالات أزمة الإنسانيات في بريطانيا، يقدّمها تقرير صدر قبل يومين، يشير إلى أن نسبة تلامذة المدارس الثانوية البريطانية ممن درسوا مناهج الإنسانيات، تراجع بشكل متسارع من نسبة 56% في العام 2016، إلى 38% في العام 2022. وتظهر تلك الأرقام متوافقة مع التغيرات في نسب التعليم الجامعي. فمع أن عدد الطلاب الجامعيين في أقسام الإنسانيات، ارتفع منذ عقد الستينيات، فإن نسبة طلاب كليات الإنسانيات تتراجع كنسبة مئوية من العدد الإجمالي للطلاب الجامعيين، من 28% في العام 1962 إلى 8% فقط في العام 2020.

في واحد من وجوهها، تحوّل دوغما عصرنا النيوليبرالية أي مسألة إلى معادلة للربح والخسارة، بحيث يمكن اختزال الأسئلة كافة في سؤال واحد رئيسي عن الجدوى الاقتصادية، يتعين على السوق وحدها حسمه. في عالمنا المستقبلي، ربما لن يكون ثمّة مكان للإنسانيات، سوى بوصفها أمتيازاً يتمتع به القادرون على دفع كلفته. في الحالة المصرية، لا يظهر أن نظام الثانوية العامة الجديد معنيّ بشكل محدد بالخصم من رصيد الإنسانيات، بقدر ما هو معني بتقليص عدد المواد الدراسية بالعموم. ذلك التقشف التعليمي، كما يخفف على الطلبة وأسرهم في ظل أزمة أقتصادية مزمنة، يحمل إقراراً من الدولة بإمكاناتها المحدودة ومستوى مؤسساتها التعليمية المتدني، وبالتالي خفض طموح تعليمها العام، إلى الحد الأدنى.

*نشرت في المدن الالكترونية يوم السبت 2024/08/17

Leave a Comment