زكـي طـه*
لم ولن تتوقف الكتابة عن الرفيق محسن ابراهيم وحوله. هكذا كان الأمر في حضوره وإنكفائه ولحظة غيابه، كما سيبقى بعد رحيله. كثيرة ومختلفة زوايا مقاربة أدواره وأدائه، ومتعددة الغايات والمقاصد خلفها، ويقترب من الاستحالة حصرها أو إحصاؤها. أما كثرة الأوصاف التي تنطوي عليها وتنوع العناوين التي تتصدرها، فهي مستلهمة من سيرة ومسيرة غير قابلة للتدوين بنص وحيد. ورغم مراجعاته النقدية لهما، فإنهما ستبقيان موضع مراجعة متكررة، ومادة بحث ودراسة دائمين، ومرجعاً للمهتمين بتاريخ البلد والمنطقة واليسار. مرد الأمر دوره ومساهماته وما انتجه من أفكار ومفاهيم ورؤى في امتداد التجارب التي خاضها وشارك فيها. أما ما صدر خلالها عنه من مواقف، فكانت بمجملها وستبقى موضع إعادة قراءة ونقد وتحليل. لم ولن يختلف الأمر بالنسبة لكل أصحاب الطموح ودُعاة التغيير والتقدم في لبنان والمنطقة العربية، التي سكنت قضاياها عقله وشكلت حقل مساهماته بكل مستوياتها، فكراً وتحليلاً واستشرافاً ونضالاً لا يمل أو ينقطع.
عامٌ والمنظمة تفتقد أمينها العام الرفيق محسن ابراهيم، وهو المقيم الدائم في وجدان مناضليها والحاضر في وعيهم وأدائهم، وهم من الذين انتسبوا إلى صفوفها، وتفاعلوا وتأثروا كما غيرهم مع أفكارها ومقولاتها، وما ظلل مراحل تجربتها من شعارات، تحولت ولا تزال عناوين محطات بأكملها من تاريخ البلد والمنطقة. هو الناظم لتاريخها ودورها منذ التأسيس قبل خمسين عاماً. وهي التي شكلت امتداداً بل تطويراً لتجربة نضالية قومية ووطنية كبرى، كان له فيها دور قيادي بارز واستثنائي. وكلاهما التجربة والدور اكتسبا أهميتهما من اتساع مداهما الزمني والجغرافي، وروافد القوى المشاركة فيها واحتشادها، وتعدد مستويات وأشكال ووسائل النضال خلالها.
عامٌ وهو المقيم بيننا. كُتب الكثير عن صمته وانكفائه. وهذا ما لم تعرفه المنظمة وفلسطين، وما يقع في إطارهما من القضايا الجوهرية التي استحقت منه، الكثير من الكلام والحضور، وكل المتاح لديه من جهد والممكن من أدوار. لقد شكلت فلسطين بالنسبة له القضية العربية الأهم بين قضايا المنطقة، ولذلك شارك شعبها وقياداتها نضالهما وكفاحهما المتواصل، دون انقطاع من أجلها وفي سبيلها. ولهذا وفي يوم رحيله، استحق وفاء فلسطين شعباً وقيادة لدوره الاستثنائي والمميز.
كان رفيقنا حاسماً في إزالة كل التباس أو خلط غير موضوعي بين دوره قائداً لعمل المنظمة في حدود انتسابها اللبناني، وحجم طاقتها ومتطلبات مسيرتها النضالية وطموح تجددها فكرياً وسياسياً ونضالياً. وبين دوره المعطوف على مساهمته التاريخية في مسيرة اليسار العربي واللبناني ضمنه، وحركة التحرر الوطني العربية عموماً، والحركتين الوطنيتين اللبنانية والفلسطينية خصوصاً، والتي كانت في صلب اهتماماته.
ولأن أدوار الأفراد مهما تعاظمت، حسب قوله، ولإنها لا تكتسب أهميتها والجدوى منها وفاعليتها، إلا بالعلاقة مع الموقع الذي تصدر عنه وتستند إليه. لذلك كان الحاضر الدائم بالنسبة له موقع لبنان وهويته الوطنية في الإطار العربي ألأوسع، وقضية التغيير الصعب فيه، وموقع اليسار منها ودوره فيها. ويضاف إلى رسوخ قناعته بأهمية الموقع اللبناني وقضاياه، أهمية وجود المنظمة ودورها فيه ومتطلباته. وكما كان مبادراً في خوض غمار تجارب التغيير، فإنه لم يتردد في المبادرة إلى مراجعتها على ضوء نتائجها، ونقد ما ظلّل راياتها من أفكار وبرامج وأداء، وما حكم مساراتها من تدخلات خارجية وموازين قوى متبدلة. وقد اختلفت خلالها القضايا وتداخلت وتغيرت الأدوار وتبدلت الممارسات والمواقف. وبالنظر لنبل القضايا التي تستحق الالتزام، لم يألُ جهداً على غير انقطاع، لإنجاز ما تنكبه من مسؤوليات، واضطلع به من أدوار، كان يعلم أكلافها. ولم تثنه عنها المصاعب والمخاطر الحاضرة دوماً، كما لم يفت من عضده واقع حال المنظمة وقد ضمرت قدراتها وامكاناتها.
رغم ذلك ساجل الأمين العام، دون كلل ضد كل تضخيم لدوره حيال مسيرة المنظمة. لقد رأى على الدوام أن معادلات العمل الحزبي لا تحكمها كفاءة المسؤول الأول فقط، بل تقررها محصلة الوزن الجماعي. وأن دور القائد الأول وكفاءته لا يكونا مجديين إلا بقدر حُسن انضمامه المؤثر والفاعل إلى المحصلة الحزبية الجماعية، واضطلاعه بمسؤولية السعي إلى ترقيتها وتطويرها، انطلاقاً من الواقع الموضوعي وضوابطه. أما ما هو خلاف ذلك فكان يراه محكوماً بالمراوحة خارج أي انتاج حقيقي أو نجاح ملموس. ولذلك كان شديد الحرص على تنسيب جهده ونتاجه إلى الإطار الحزبي، والإصرار بأن يصدر عنه وبإسمه، حتى لو اقتضى الأمر جولات من التأهيل كان يراها ضرورية لأكثر من سبب، لكن أهمها ألا يبقى ما ينتجه معلقاً في الفراغ.
لم يكن الرفيق محسن ابراهيم قائداً من أهل الإستسهال أو التبسيط في مقاربة القضايا وما يحيط بها من أزمات، أو ما تنطوي عليه من تعقيدات وتحديات. فالأسئلة كانت سلاحه الأمضى مدخلاً للبحث الجاد وطريقاً للاستخلاص وصوغ النتائج وتحديد الاولويات، وما يترتب حولها من مهام وفق المتاح والممكن. لم تجانبه الدقة والموضوعية في قراءة أزمات البلد واليسار والمنظمة حيث هي. ولذلك بذل كل الممكن من الجهد اللازم لتمكين المنظمة من تجاوز أزمتها انطلاقاً من وعي مقومات استمرارها طرفاً حزبياً طامحاً لتجـديد دورها المستنير في اسـتنهاض اليسـار اللبناني بعيداً عن الجمود والتبرير والتمويه، وبالاستناد إلى حدود أهليتها في ضوء المحصّلة الحزبية المتواضعة التي انتهت إليها، ولمدى قدرتها على الإضطلاع بمهام إعادة تأسيس عمل حزبي يساري جديد، دون تضخيم أو عدمية. وفي مقدمة المقومات كانت رمزية الإسم الذي يستحضر الموقع التاريخي السابق للمنظمة ودورها، وهو المرشح للتغيير مع استكمال انطلاقتها وتجاوز تراثها، وتبديد ما تبقى من التباسات أحاطت بالتجربة والإسم معاً دون تنكر لهما.
أما المقوم الأهم في تجديد انطلاقة المنظمة، فقد تمثل بمبادرته وما تم إنجازه في سياقها من إعادة جلاء ممارستها الفكرية النقدية ومسلكها السياسي العملي المستقل والنزيه. ويضاف إليه كتلة حزبية مناضلة مستمرة في التزام خط المنظمة الذي أنتجه مسار التجديد الفكري السياسي. وهي الكتلة التي استندت إليها الشرعية الحزبية التي لم يضِيرها أبداً حجمها وحدود طاقتها وكفاءاتها. وهي التي ترفع الراية التي ظلّلت المراجعة النقدية، وكل ما أتى في امتدادها من رؤى وأفكار وتجديد منطلقات وتوجهات. ولذلك كان الأمين العام أمينا لما انتهت إليه المراجعة النقدية للمركزية الديمقراطية في التنظيم، وحاسماً في التزام معادلة “صدور المنظمة أولاً والانضمام إلى محصلتها وتحديد دوره في إطارها سعياً لتطويرها”.
هكذا انتظم المسار التجديدي الصعب والمعقد للمنظمة بقيادة الأمين العام. وهو المسار الذي اختتم بانعقاد مؤتمرها الثالث مع نهاية عام 2012، والذي أرسى أسس وشروط الخروج من الإنكفاء، وصيغة الصدور المتدرج إلى ميادين الطرح الفكري والممارسة السياسية والنضالية. وهو الصدور الذي تكرس برعايته للمؤتمر الرابع عام 2018 ولقيادتها وفي طليعتها القائديْن الراحليْن خالد غزال ومحمد مروة. وهو المؤتمر الذي طور منطلقات المنظمة السياسية وتوجهاتها البرنامجية. كما أطلق المبادرة الفكرية والسياسية التي بلور مبادءها ووجهتها الأمين العام، وأقرها المؤتمر تحت عنوان ” من أجل حزب يساري ديمقراطي علماني، ومن أجل حركة علمانية ديمقراطية لبنانية وعربية”.
عامٌ مضى على غياب أميننا العام وقائدنا. لكن المنظمة التي ساهم في تأسيسها وقاد نضالاتها وراجع تجربتها، وأرسى منطلقات تجددها فكراً وسياسة وتنظيماً وممارسة، لم تعُد سؤالاً تحيط به الشكوك أو يلفه الإبهام، بقدر ما أصبحت أمراً واقعاً ودوراً قائماً وإنجازات محققة، رغم التباسات الإسم الذي فقد الكثير من وظائف الاحتفاظ به. لقد قطعت المنظمة شوطاً مهماً لا يستهان به في التعبير عن أزمة اليسار وصياغة وطرح أفكار حول شروط النهوض المتجدد له، سواء على صعيد تجديد الهوية الفكرية وتحديث البرنامج السياسي، أو في إطار السعي لإعادة بناء الموقع وتوليد كتلة ديمقراطية علمانية وبناء حركة شعبية مناضلة. وهي القضايا والمهام التي افتقدها البلد طوال عقود، كما الانتفاضة الشعبية المجيدة التي سرعان ما فقدت زخمها، وجرى هدر أكثر مفاعيلها، في مواجهة الانهيار والمخاطر المصيرية التي تحاصر البلد من الداخل والخارج.
في ذكرى غيابك ورحيلك، ومهما اشتدت الصعاب وقضت التحديات سنظل على وفائنا لتضحيات شعبنا ومنظمتنا وشهدائها وجرحاها وقادتها ونضالاتها. وسنستمر على التزامنا قضايا وطننا وشعبنا وطموحات أجياله في التقدم والتطور الديمقراطي، وستبقى فلسطين وقضيتها في وجدان منظمتنا، بينما شعبها يخوض أشرس معركة في تاريخ بلادنا ومنطقتنا، وهو يجدد نضاله البطولي في سبيل تحرره وإقامة دولته الوطنية المستقلة على تراب أرضه الطاهرة .
عامٌ مضى وأنت الحاضر الدائم معنا وبيننا، سلام عليك ونحن نتذكر استشرافك للقادم على البلد ومخاوفك عليه، وقد بات أمراً واقعاً قائماً. سلام عليك ونحن نواجه باللحم العاري ومعنا أكثرية اللبنانيين الذين يسحقهم جحيم الانهيار وخطر تجدد الحرب الأهلية والمجاعة الزاحفة. سلام عليك في غيابك ونحن نستلهم نهجك وفكرك في مقاربة قضايا العرب وفلسطين ولبنان واليسار والمنظمة. سلام عليك ونحن نسعى بدأب ودون تردد متابعة مسيرة منظمتنا رغم كل التحديات واستكمال ما دعوتنا إليه وما بدأناه معك من مهام تجديد لها ولدورها، وزادنا دوماً نزاهة الموقف والمسلك. سلام على كل الشهداء ومن سبقنا من الرفاق والقادة.
سلام عليك يا رفيقي وقائدي، كنت وستبقى ملهماً لمسيرة التقدم والتغيير وسط تحديات ومخاطر مصيرية تعصف بالمنطقة العربية وتهدد كياناتها ومجتمعاتها.
في ذكرى رحيلك تحية ووردة.
*أمين سر المكتب التنفيذي لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان
Leave a Comment