انسكب حبر كثير في وداع المثقف، عالم اللسانيات والردايكالي الأميركي نعوم تشومسكي (95 عاماً). كثر كتبوا مطولات وملاحم في رثائه ومدح محاسنه، وعددوا إيجابياته وتطرقوا إلى نضالاته في مقارعة أميركا من قلب أميركا، استعجلوا موته ورحيله (بعدما سرت شائعات وفاته تكراراً فيما يعاني صحياً). ربما لأنهم يشعرون بنهايته وفقدان أمثاله في بيئتهم وبلدانهم ووسطهم الثقافي، بل يعرفون تأثيره عالمياً. والأرجح أن كثراً من “التشومسكيين” يمارسون سلوكيات على نقيض أفكار تشومسكي في بلادهم ومجتمعاتهم…
يصعب اختصار سيرة تشومسكي وكتبه وأفكاره في عجالة عابرة… تشومسكي، الاناركي، اليساري، “أب اللسانيات الحديث” وصاحب نظرية “النحو التوليدي” التي تعدّ أهم إسهام في مجال النظريات اللغوية في القرن العشرين، وهو الذي يرى أن “المثقف هو من يحمل الحقيقة في وجه القوة”، ويربط دور المثقف بفكرة الالتزام، وعلى وجه التحديد الالتزام الأخلاقي الذي يتمثل في كشف أكاذيب السلطة وقول الحقيقة. وقد اشتهر بنقده الحاد لما يسميه “الليبرالية المتوحشة” وللسياسة الخارجية لحكومات بلاده، خصوصاً تدخلاتها العسكرية منذ الثلث الأخير من القرن العشرين، ونقده لآخر التطوّرات والثورات والصراعات العالمية مثل التغيّر المناخي، وثورات الربيع العربي وويكيليكس، وسجالات نزع السلاح النووي.
تشومسكي أحد أكثر المفكّرين تأثيراً في العصر الحديث، ومن الأصوات الثقافية الأيقونية، التي لها بُعدها السياسي “المقدس”. تمَّ تصنيفه في المرتبةِ الثامنة بين أكثر الأشخاص الذين يتمُّ الاستشهاد بهم في التاريخ، مع أرسطو، وشكسبير، وماركس، وأفلاطون وفرويد. ومرات يستغل البعض مواقفه لتوظيفها في غير موضعها.
يصعب اختصار تجربة صديق إدوارد سعيد. ولد في 7 كانون الأول 1928 في حي “أوك لين” الشرقي في مدينة فيلاديلفيا (ولاية بنسلفانيا الأميركية)، لعائلة يهودية يسارية التوجه. يتحدر أبوه من أوكرانيا، وأمّه من بلاروسيا. نشأ مع أخيه في بيئة يهودية وتعلم اللغة العبرية التي كان والده يدرّسها، كما نال شهادة الماجستير العام 1951 عن أطروحته “الصيغ الصرفية في العبرية”، والدكتوراه في اللغويات من الجامعة نفسها العام 1955. ربما ينبغي السؤال عن حجم التناقضات الفكرية التي تولد في بيئة أقلية يهودية. وإذا كان اليهود قد احتلوا فلسطين، ومن ضمنهم شخصيات عنصرية متطرفة، في المقابل نجد أبرز من دافع عن القضية الفلسطينية هم من الشخصيات اليهودية اليسارية، بدءاً بمكسيم رودنسون، مروراً بنورمان فينكلشتاين، وآفي شلايم، وايلان بابيه، وصولاً إلى تشومسكي.
كان تشومسكي صهيونياً في بداية حياته، لكن “صهيونيته كانت من النوع الذي يريد صاحبها قيام دولة اشتراكية في إسرائيل، يعمل فيها اليهود والعرب جنباً إلى جنب على قدم المساواة”. ثم اتهمته لاحقاً الأوساط الصهيونية بمعاداة السامية لأنه دافع عن حق أستاذ جامعي فرنسي في حرية التعبير دفاعاً عن حقوق الفلسطينيين. وفي المجال السياسي، كان تشومسكي أول من نبّه الى خطورة استخدام المحرقة اليهودية لتجديد شرعية الصهيونية وتسويغ إرهاب الدولة الإسرائيلية واحتلال كامل أرض فلسطين والأراضي العربية المحتلة العام 1967.
زار تشومسكي قطاع غزة في تشرين الأول 2012 تضامناً مع أهله المحاصرين، مؤكداً على الدوام أن إسرائيل تنتهج سياسات من شأنها زيادة المخاطر المحدقة بها إلى أقصى حد، “فهي سياسات تختار التوسع على حساب الأمن، وتقود إلى انحطاطها الأخلاقي وعزلتها ونزع الشرعية عنها، الأمر الذي سيؤدي إلى دمارها في نهاية المطاف، وهذا أمر غير مستحيل”. بالنسبة إلى تشومسكي، فإن العدالة في فلسطين ليست مسألة خاصة بالفلسطينيين وحدهم، بل هي قضية إنسانية عالمية تتعلق بالكرامة والحرية الإنسانية لكل البشر، إذ يعتبر تشومسكي أن النضال الفلسطيني هو جزء من حركة عالمية أكبر تهدف إلى مقاومة الظلم والاستغلال والتحرر من الولايات المتحدة والدول الغربية.
كانت قضية فلسطين جزءاً من قضايا العالم التي تبناها تشومسكي، فهو ساند حركة الطلاب الاحتجاجية العام 1968، واعتُقل مرات عديدة، إذ أدرجه الرئيس الأميركي آنذاك ريتشارد نيكسون ضمن لائحة “أعداء البلاد”. مع نشر مقال “مسؤولية المثقفين” قبل أكثر من نصف قرن، ظهر تشومسكي في الساحة السياسية الأميركية بصفته أحد كبار منتقدي الحرب في فيتنام. وُصِف المقال بأنه “أكثر قطعة مؤثرة في الأدب المناهض للحرب” في فترة حرب فيتنام.
بعد نشر المقالة، تلقى تشومسكي رسالة من الناقد الأميركي جورج شتاينر، يثني على المقالة في رفضها للحرب، ثم يطرح سؤالاً جوهرياً على تشومسكي: “لكن، أي عمل تحث عليه، أو حتى تقترحه؟ هل سيعلن نعوم تشومسكي أنه سيتوقف عن التدريس في (إم آي تي) [معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا]، أو في أي مكان من هذه البلاد، ما دام التعذيب وإلقاء قنابل النابالم مستمراً؟ هل سيهاجر نعوم تشومسكي لبعض الوقت؟… هل سيساعد تلاميذه على الهروب إلى كندا أو المكسيك؟… هل سيستقيل من جامعة متورطة إلى حد كبير في ذلك النوع من (الدراسات الاستراتيجية) التي له الحق في احتقارها؟ المثقف مسؤول. ماذا عليه أن يفعل؟”. ويصف الناقد السعودي، سعد البازعي، تلك الأسئلة بأنها جوهرية وبالغة الحساسية بالفعل، فماذا كان رد تشومسكي؟
تحدث المفكر الأميركي في رده أولاً عن بعض ألوان المقاومة، مثل عدم دفع جزء من الضريبة، وقد فعل ذلك كما يقول، وكذلك الحث على رفض الخدمة العسكرية ومغادرة البلاد، وهما خياران رآهما غير مناسبين، ليعود فيجمل رأيه في العبارات التالية: “… خلصتُ إلى أنه في الوقت الراهن، ليس من غير المناسب لمثقف أميركي أن يبقى هنا، ويعارض الحكومة بأعلى قدر من الوضوح يستطيعه، داخل البلاد، وضمن الجامعات التي رضيت أن تكون على قدر كبير من التواطؤ مع الحرب والكبت”.
يبحث تشومسكي دائماً عن الإشكاليات والازداوجية السائدة في الولايات المتحدة. على سبيل المثال، فإن هجمات11 أيلول 2011 روّعت الأميركيين، لكن معظمهم تناسى ما يصفه تشومسكي بـ”11 سبتمبر الأول” ـ 11 سبتمبر 1973 ـ حين دعمت الولايات المتحدة انقلاباً عسكرياً في التشيلي أوصل إلى السلطة الجنرال أوغستو بينوشيه، الذي قام بإعدام ثلاثة آلاف شخص. الإطاحة المدعومة أميركياً بالرئيس التشيلي سالفادور الليندي، كانت تهدف، بحسب عبارات إدارة الرئيس الأميركي آنذاك ريتشارد نيكسون، إلى قتل “الفيروس” قبل أن “ينتشر” بين أولئك الذين لا يريدون استيعاب مصالح النظام العالمي بقيادة بلاده.
ألّف تشومسكي أكثر من مئة كتاب حول اللغة ووسائل الإعلام والسياسة والحروب، أهمها كتاب صدر العام 1966 بعنوان “مواضيع في نظرية القواعد التوليدية”، و”اللغة والعقل” العام 1968. وأصدر العام 1969 أول كتاب سياسي بعنوان “سلطة أميركا والبيروقراطيين الجدد”، إضافة إلى كتبه: “حياة منشق”، و”الحادي عشر من سبتمبر”، و”هيمنة الإعلام”، و”القوة والإرهاب”. يمثل عنوان “العقل ضد السلطة” تلخيصاً وافياً بأعمال نعوم تشومسكي، وإجمالاً لمسار حياته. فالمثقف الذي من طينته لا يملك إلا العقل وسيلة لخوض المعارك (…). والخلاف بين تشومسكي ومثقفين معاصرين عديدين يتمثل في أن هؤلاء كثيراً ما نبذوا سلاح العقل؛ بل إن منهم من يعدُّ هذا السلاح في جوهره سلاحاً قمعياً.
* نشرت على موقع المدن بتاريخ 20 حزيران 2024
Leave a Comment