ثقافة

“نظرية المؤامرة” كأداة سلطوية في قمع استمرارية الإنتفاضة

كتب الدكتور بول طبر

إن شيوع فكرة المؤامرة في النقاش والتحليل السياسي الدائر في لبنان تستحق منا التدقيق والتفكيك، كما يقال هذه الايام. فمع دخول المجتمع اللبناني في أواخر ٢٠١٩ في أزمة بنيوية عميقة (صحية، اقتصادية، سياسية وغيرها)، طالعتنا أصوات عديدة تنسب ظهور هذه الأزمة أو تلك، إلى حفنة من المتآمرين مؤلفة من أطراف خارجية معادية، يلتحق بها بعض المتعاونين في الداخل. في هذا السياق، نسبت أطراف رئيسية من السلطة في لبنان حدوث انتفاضة ١٧ تشرين إلى مؤامرة تنفذها السفارات الأجنبية، وبالطبع على رأسها السفارة الاميركية. فما الذي يحققه هذا الكلام للسلطة الحاكمة في لبنان؟

بداية، يؤدي هذا الكلام عند الذين يتقبلونه إلى تشويه مقاصد وأهداف المشاركين في الانتفاضة، وفي أحسن الاحوال، إلى اعتبارهم مجرد أدوات مضلَّلَة تخدم مصالح وأهداف قوى خارجية معادية. وفي كلا الحالتين، تستفيد السلطة من هذا الكلام إذْ تسعى من جراء تعميمه إلى نزع الشرعية عن الانتفاضة والمنتفضين، وبالتالي الى شيْطنتهم كخطوة ضرورية تمهد لقمعهم بشتى الوسائل. من جهة أخرى، تقوم نظرية المؤامرة على إسقاط الأسباب الداخلية للأزمة التي يمرّ بها المجتمع اللبناني، والتي تتمظهر بالفساد والزبائنية السياسية ونهب المال العام، وعدم استقلال القضاء، وتعمد عدم بناء مؤسسات الدولة على قاعدة خدمة المجتمع، وتحقيق حكم القانون واستفحال الأزمة الاقتصادية الخ. فتصبح هذه الأزمة بمختلف وجوهها المتعددة صنيعة المتآمرين في الخارج، ويمسي نزول الحراكيين إلى الشارع انعكاساً، بقصد أو من دونه، تحقيقاً لإرادة هؤلاء المتآمرين. هكذا يصبح الوضع في الداخل على ما يرام، لولا تدخل المتآمرين واختراقهم له لمصلحتهم وخدمة لمآربهم الخاصة.

بذلك تحقق نظرية المؤامرة ثلاثة أهداف: الهدف الاول، اعتبار الأزمة الداخلية وليدة أسباب خارجية، وثانياً، شيْطنة المشاركين في الاعتراض على السلطة بصفتهم الطرف الداخلي المسؤول عن الأزمة، وثالثاً، تبرئة السلطة والنظام من تحمل أي مسؤولية عن الأزمة التي تعصف بالبلد عن طريق إرجاعها بالكامل إلى المتآمرين الأعداء في الخارج. وتصبّ هذه الأسباب مجتمعة في مصلحة السلطة في لبنان والمدافعين عن نظامه ككل، و تتحول بذلك نظرية المؤامرة إلى أداة من أدوات النظام التي تعتمد على العنف الرمزي لإعادة انتاج ذاتها (بالمقارنة مع العنف الجسدي، يتميز العنف الرمزي بحثّ الأفراد والجماعات على القيام بأعمال مدفوعة بقناعات وآراء تخدم مصالح وتصورات السلطة). بكلام موجز، تهدف نظرية المؤامرة المتداولة إلى ترحيل أسباب الأزمة ونقلها إلى الخارج، وشيْطنة المعترضين على السلطة، وأخيراً تبرئة السلطة والنظام من أي مسؤولية عما وصلت إليه الأوضاع، عن طريق تغييب الأسباب الداخلية للأزمة البنيوية التي تعصف بالبلد.

إضافة إلى ذلك، نشير إلى هدف رابع تقوم بتحقيقه نظرية المؤامرة لدى الذين يتبنونها ويدافعون عنها: إنه الدور الأساسي الذي تؤديه في تقوية وتعزيز الشعور بالإنتماء إلى الهوية السياسية للذين يتبنون مثل هذه النظرية. فعن طريق شيْطنةْ العدو، “الآخر”، وتنسيب  كل ما هو سلبي ومسيء وفاقد للإحترام إليه، تشتد عصبية كل من يتشارك في هذا الرأي، وتصاغ هويته على قاعدة إختلافه الجذري مع هذا “الآخر” وصفاته. فإذا كان “الآخر” محتلأً، فأنا مقاوم، وإذا كان إمبريالياً، فأنا وطني، إلخ.

أخيراً، إن إخضاع “نظرية المؤامرة” للنقد كما ورد أعلاه، لا يتناقض مع ضرورة الاعتراف أن هناك محاولات مستمرة من سفارات ومن أحزاب السلطة لركوب التحركات التي أطلقتها إنتفاضة 17 تشرين، رغم أن غالبية المنتفضين لا يعبّرون الا عن وجعهم، وعن الحالة المزرية التي وصلت إليها البلاد.

Leave a Comment