أقامت منظمة العمل اليساري الديمقراطي العلماني مساء أمس الخميس 15 شباط 2024 ندوة في مقرها في منطقة وطى المصيطبة – مقابل صيدلية الحوت، ندوة تحدث فيها كل من خبير الاقتصاد والطاقة المهندس ادمون شماس، والباحث في الاقتصاد السياسي الدكتور بلال علامة وقدم لها وأدارها عضو الهيئة الإدارية لجمعية الإعلاميين الاقتصاديين الزميل باسم سعد، تحت عنوان: “موازنة العام 2024: خلل مضاعف وإصلاح مغيَّب ” وحضرها عدد من الفاعليات الثقافية والأكاديمية والاجتماعية وجمهور من المعنيين والمهتمين.
استهل سعد الندوة مؤكداً أن الموازنة تستند على الضرائب والرسوم والتقديرات العشوائية، في حين أننا بأمس الحاجة إلى الرؤية الاقتصادية لتحسين واقع لبنان المالي والاجتماعي. واعتبر أن هذه الموازنة شكلت حالة إرباك حقيقية للواقع اللبناني بتفاعلاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية وللمواطن والدولة اللبنانية. وأشار إلى أن الذين وضعوا فلسفتها لم يذكروا لنا كيف سيكافحون التهرب الضريبي وتنشيط الجباية، ومكافحة التهريب والتهرب الجمركي وحل قضية الأملاك البحرية والنهرية، وموضوع الكسارات والمرامل التي لا تدفع رسوما وضرائب، وهي التي تتجاوز الملياري دولار سنوياً. وقال: لقد غاب عن الموازنة الرؤية المالية للانفاق الاجتماعي، بعدما حمَّلت الموازنة كاهل محدودي ومتوسطي الدخل على نحو غير متناسب مقارنة بالأسر الغنية. وتساءل أين هي زيادة الانفاق الاجتماعي التي تهدف إلى حماية الفئات الأكثر ضعفا؟ وختم قائلاً: لقد منعت المصالح الخاصة للطبقة السياسية والاقتصادية الإصلاحات الرئيسية التي طلبها صندوق النقد الدولي لتقديم حزمة مساعدات بقيمة 3 مليارات دولار للبنان. وتشمل هذه الإصلاحات إقرار تشريعات لحل الأزمة المصرفية وتوحيد أسعار الصرف التي يتخبط المسؤولون في مقاربتها والتفاعل معها.
وأشار الدكتور علامة إلى الصدمة التي حدثت بفعل المخالفات الدستورية والقانونية التي عبرت عنها الموازنة، فيما لبنان يعاني من أزمة كارثية على المستويات المالية والنقدية والاجتماعية. وهي أزمة لم تظهر منذ خمس سنوات، بل منذ عشر سنوات. وكنا ومعنا الكثير من الخبراء قد قد تقدمنا بالعديد من البرامج الإصلاحية ونبهنا إلى مخاطرها الواضحة، لكن أحداً من المسؤولين لم يرد أن يسمع. ومن هذا المنطلق نستطيع أن نتهم هؤلاء بأنهم قادوا البلاد إلى ما هي عليه من كارثة محدقة، ثم قاموا بإلصاق تهمة انفجار الأزمة بانتفاضة 17 تشرين وشبابها، ثم إذا بهم اليوم كطبقة سياسية يستعيدون الإمساك بزمام الأمور، ومواصلة دفع البلاد نحو الغوص في مستنقع الانهيار من خلال استعمال كل ما لديهم من أدوات قانونية ودستورية. وقال: إن الموازنة هي صك تشريعي يصدر بموجب قانون يحدد سياسات الحكومة لعام مقبل يحقق جملة أهداف. والمؤسف أن عددا من النواب خلال المناقشات اعتبر أن الموازنة يجب ألا تحمل أي رؤية إصلاحية، وليس من الضرورة أن تتضمن قطع الحساب السنوي عن السنة الماضية، ما يعني استمرار العشوائية وفقدان التعرف على الأرقام الحقيقية للنفقات وللمالية العامة. وقد كان على النواب أن يرفضوا مناقشة الموازنة دون أن يترافق النص بشأنها على قطع الحساب ليعرف اللبنانيون إلى أين هم سائرون. كما أن الواردات لا يمكن تقديرها عشوائيا لأن من المعروف أنه كلما زادت الرسوم والضرائب تضاعف التهرب والتهريب، وبالتالي تناقصت العوائد المقررة والمقدرة. ولعل هذا السبب هو وراء غياب قطع الحساب. والأدهى هو أن الموازنة لا تلحظ أي بند يتعلق بالاستثمارات الخارجية والداخلية على حد سواء. حتى أن من يريد تأسيس شركة بات مستحيلاً عليه ذلك، بالنظر إلى ارتفاع الضرائب والرسوم المطلوب دفعها. لقد جرت مضاعفة هذه الضرائب على اقتصاد منهك ومواطن يعاني من تراجع دخله وعجزه عن تأمين الضروريات الحياتية. أنا لا أعرف من قرر هذا الحجم من الضرائب والرسوم في ظل غياب الرؤية الإصلاحية التي تهدف إلى تحريك عجلة الاقتصاد وتوليد الأرباح ما يحفز عالم الاعمال ويزيد من الانفاق الاجتماعي وهذا كله ملغى ولا محل له.
وأضاف علامة: لقد صدرت اليوم الموازنة في الجريدة الرسمية وهي تتضمن أرقاما غريبة عجيبة. فما وافق عليه النواب تغير في النص المنشور، حتى لم يعد النواب يعلمون على ماذا وافقوا وعلى ماذا لم يوافقوا وعلى ما عدلوه وما لم يعدلوه من مواد. فمثلا ارتفع رسم ختم الورقة في وزارة الخارجية من 500 ليرة إلى 1000 ليرة والآن إلى مليون ليرة. فالطالب الذي يدرس في الخارج ويريد التوقيع على شهاداته يتوجب عليه دفع حوالي 20 مليون ليرة للتصديق على النسخة الاصلية لشهادته وصور طبق الأصل عنها. وهذا وسواه هدفه تقديم أرقام إلى صندوق النقد الدولي.
المهندس شماس أشار إلى مقال نشره في العام 2022 في جريدة النهار حول موازنة ذلك العام. وقال إن موازنة العام 2023 لم تختلف عنها، ومثلها موازنة العام 2024، ما يعني أن البلاد في الجانب المالي – الاقتصادي تغوص في الوحل، والدليل أن موازنة العام الجاري لا تتحدث عن الكيفية التي ستعمل الحكومة من خلالها على علاج مسألة أموال المودعين خلال الفترات السابقة، واذا لم نعالج ذلك كيف يمكن للقطاع المصرفي في لبنان أن يستعيد دوره الداخلي على الأقل؟ الميزة الوحيدة التي تباهت بها الحكومة أن الموازنة أنجزت في موعدها خلافاُ للتأخير في السنوات السابقة. وأضاف: كمهندس ومدير تنفيذي على مستوى عالمي في مسائل الطاقة والمال وبالامور الادارية والمشاريع الهندسية استطيع المساهمة في البحث عن كيفية إنقاذ الدولة اللبنانية كمؤسسة منهارة، تشبه سفينة عالقة، ولا بد من العمل على تعويمها كي تعود إلى القيام بدورها الطبيعي. وموضوع من هذا النوع ليس موضوعا ًحسابياً لأن ما يجري من تلاعب هو أكبر إهانة للمودعين وللشعب اللبناني ولمستقبله. لأنه في وضع كالوضع اللبناني لا يمكن تقديم موازنة دون أن تتضمن جملة اصلاحات وخطة إنقاذ. ولأن الموازنة جاءت على نحو مفرغ منهما يمكن وصفها بأنها منفصلة عن الواقع هي والذين قاموا بإعدادها. ليس صحيحاً القول إن صندوق النقد طالب الحكومة بزيادة الواردات فقط، بل طالبها أيضاً بوضع خطة تعافي إصلاحية على مدى خمس سنوات. ومن المعلوم أنه في حال الانهيار المالي والانكماش الاقتصادي لا تستطيع أن تفرض ضرائب على مواطن يعاني من نهب مدخراته وانهيار دخله وتراجع اقتصاده. لقد قلت سابقاً وأكرر أن القطاع المصرفي انتهى ولا يمكن إعادة انهاضه ضمن أوضاعه الراهنة، وخصوصاً دون تسديد الودائع. وما حدث خلال السنوات المنصرمة، أن الموضوع المالي أدير من خلال التعاميم التي دأب مصرف لبنان على إصدارها، وهي السياسة التي ما تزال مستمرة، ما يعني أن ما يجري التخطيط له فعليا هو تجميد الودائع وليس إعادتها لأصحابها عبر عقود طويلة مشكوك بتحصيلها. وانطلاقاً من ذلك فلا أرى حلا على المدى المنظور، لأن الفعلي هو أن السلطة السياسية الفاسدة، ومعها القطاع المصرفي بما فيه مصرف لبنان تتجاهل ضرورة الإصلاح من خلال رفض السير بخطة وطنية تعمل على تمهيد السبل نحو تعافي الاقتصاد والمجتمع اللبناني. وعرض شماس لما كان يتوافر لدى مصرف لبنان والمصارف من أموال في السنوات السابقة، وكيف جرت عملية تبديدها وتهريبها، ومن استفاد من هذا الوضع من كبار المصرفيين والمحتكرين وأرباب السلطة السياسية، ولما تملكه الدولة من أصول، وأهمية إعادة تقويم قيمتها ووضعها واستثمارها من خلال مجالس إدارة شفافة من الأجانب على نحو مختلف عن الإدارات الحالية، للمساهمة في تسديد الديون، وبالتالي استعادة تحريك قطاعات الاقتصاد اللبناني. وختم بالتوقف عند ما تضمنه قانون الموازنة كما جرى نشره حول موضوع فرض ضرائب على الذين أفادوا من أموال الدعم ومنصة صيرفة التي استهلكت ما بين 3 – 4 مليار دولار وجرى تهريب السلع المدعومة إلى سوريا وافريقيا وغيرها. وهذه هي أموال المودعين المنهوبة. وكيف جرى تفريغ هذا الموضوع من فحواه. وقال إن احدى الحلقات المفقودة لا تتمثل في الفساد السياسي والتحالف مع المصرفيين المشاركين في تهريب الأموال فقط، بل في غياب القضاء المستقل وبالتالي تعذر المحاسبة. وعليه، فالشعب اللبناني يدفع الثمن مضاعفا من خلال الرسوم والضرائب المتصاعدة ما يستنزف ما تبقى من دولارات في ايدي الناس أو وصلتهم من أبنائهم في المهاجر.
في اعقاب انتهاء المداخلتين شارك الحضور بتوجيه أسئلة أو عبروا عن آرائهم في مصير الأموال المنهوبة والآليات الممكنة لمكافحة الفساد وأهمية التحقيق القضائي الجنائي في الاموال المنهوبة، وضرورة السعي لاستعادتها والمقدرة بمائة مليار دولار من قبل أشخاص لا يتجاوز عددهم الـ 3000 شخص. ومدى خطورة غياب الحركة النقابية والشعبية عن مواجهة أصناف المافيا السياسية والمالية، التي تدرك جيداً كيف تقونن نهبها لأموال الخزينة ومقدرات اللبنانيين براحة كاملة. وعجز المعارضة عن الانتظام في حراك موحد لمواجهة هذا المستوى من الحمايات التي يتمتع بها هؤلاء من جانب قوى ومنظومات الطوائف من جهة، والاحتكارات من جهة ثانية.
بيروت 16 شباط 2024
منظمة العمل اليساري الديمقراطي العلماني
Leave a Comment