صحف وآراء مجتمع

نحو حوكمة رشيدة في لبنان: رؤية للتحديات وفرص التحول البنيوي

* د. سعيد عيسى

إعادة تأطير النقاش حول الحوكمة

في المشهد اللبناني، غالبًا ما يُنظر إلى الحوكمة من منظور إداري تقني، يركز على تحسين كفاءة المؤسسات ومكافحة مظاهر الفساد وتعزيز الشفافية الإجرائية. ورغم أهمية هذه الجوانب، فإن هذا المنظور قد لا يلامس جوهر التحدي الأعمق. فالحوكمة في لبنان ليست مجرد قضية كفاءة إدارية يمكن معالجتها بإصلاحات سطحية، بل هي انعكاس لبنية سياسية واقتصادية واجتماعية معقدة، تتطلب فهمًا دقيقًا لآلياتها وفرص تطويرها.

إن الهدف ليس فقط “إصلاح الإدارة”، بل السعي نحو “بناء نظام حوكمة فعال” يرتكز على أسس المواطنة والمؤسساتية، ويعزز قدرة الدولة على خدمة الصالح العام.

الحوكمة في لبنان: بين المفهوم المعياري وإمكانات التطوير

تُعرّف الحوكمة الرشيدة عالميًا بأنها منظومة القواعد والمؤسسات والعمليات التي تضمن إدارة الشأن العام بفعالية وشفافية ومساءلة. وفي لبنان، يمثل تطبيق هذا المفهوم تحديًا وفرصة في آن واحد. فبينما تواجه الممارسات الحالية صعوبات في الارتقاء إلى المستوى المعياري، بسبب التجاذبات والتوازنات القائمة، فإن الحاجة إلى تطوير آليات الحوكمة تزداد إلحاحًا لتعزيز دور الدولة كمؤسسة جامعة ومحايدة.

إن تجاوز التحديات الراهنة يتطلب الانتقال من منطق “تقاسم الموارد” إلى منطق “بناء القدرات المؤسسية”، حيث تصبح المناصب العامة أدوات لخدمة المواطنين وتحقيق التنمية المستدامة، لا مجرد مواقع نفوذ. وهذا يفتح الباب أمام فرصة حقيقية لإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة على أسس جديدة.

فهم آليات الحوكمة الحالية كمدخل للتطوير

بدلًا من الاكتفاء بتوصيف التحديات الراهنة، من الضروري فهم الآليات التي أدت إلى الوضع الحالي، وذلك بهدف تحديد نقاط التدخل الأكثر فعالية للتغيير الإيجابي. يمكن تسليط الضوء على ثلاث آليات رئيسية تتطلب مقاربة تطويرية وهي:

تطوير آليات التمثيل والتنظيم السياسي والاقتصادي:

إنّ نظام المحاصصة القائم، رغم أنه شكّل تاريخيًا آلية لإدارة التنوع، يواجه اليوم تحديات في مواكبة تطلعات المواطنين نحو دولة حديثة وفعالة. فالبنية الحالية، التي ترتكز على الولاءات التقليدية بدلًا من المواطنة الجامعة، تحد من قدرة الدولة على المبادرة والإصلاح. إن تطوير هذه الآلية يتطلب البحث عن صيغ جديدة للتمثيل تضمن المشاركة الفعالة لجميع المواطنين وتعزز الوحدة الوطنية، بحيث يُنظر إلى الإصلاح كضرورة وطنية جامعة وليس كتهديد لمصالح فئوية. 

تعزيز دور الدولة في تقديم الخدمات وتقليص الاعتماد على الزبائنية:

يمثل ضعف قدرة الدولة على توفير الخدمات الأساسية (كالصحة والتعليم والكهرباء) تحديًا كبيرًا يفتح الباب أمام تنامي دور الشبكات الزبائنية كبديل غير رسمي. إن تعزيز قدرة الدولة ومؤسساتها على تقديم خدمات ذات جودة عالية لجميع المواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم، هو السبيل لتقليص الاعتماد على الوساطات السياسية وتكريس مبدأ المواطنة القائم على الحقوق والواجبات. وهذا يتطلب استثمارات استراتيجية في البنية التحتية والقطاعات الخدمية الأساسية.

تحديات تفعيل المساءلة والمحاسبة وضرورة تعزيزها:

يمثل تفعيل مبدأ المساءلة والمحاسبة حجر الزاوية في بناء دولة القانون والمؤسسات، إلا أن تطبيقه يواجه تحديات في السياق اللبناني، لا سيما وأن ترسيخ هذا المبدأ يتطلب تجاوز التجاذبات السياسية والمصالح الضيقة التي قد تعيق مساره. إن الحاجة ماسة لتعزيز استقلالية القضاء وتمكينه من أداء دوره كاملاً، وتفعيل أجهزة الرقابة لضمان الشفافية وحسن استخدام المال العام. فالتحديات التي تواجه بعض الملفات الإصلاحية الهامة، كإصلاح قطاع الكهرباء أو تعزيز الرقابة المالية، تُظهر أهمية الإرادة السياسية الجامعة لدعم آليات المحاسبة وتجاوز العقبات، فبناء “ثقافة المساءلة” هو أساس استعادة الثقة وتعزيز استقرار الدولة ومؤسساتها على أسس سليمة.

الحوكمة كفرصة لإعادة بناء العقد الاجتماعي

إن التحديات التي تواجهها الحوكمة في لبنان ليست مجرد مؤشرات على ضعف الأداء المؤسسي، بل هي أيضًا فرصة لإعادة النظر في طبيعة العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطنين. فتراجع الثقة في مؤسسات الدولة يدعو إلى التفكير في سبل جديدة لإشراك المواطنين في عملية صنع القرار وتعزيز شعورهم بالانتماء والملكية تجاه دولتهم.

إن الأزمة الاقتصادية والمالية، رغم قسوتها، يمكن أن تكون حافزًا لإعادة بناء الثقة على أسس أكثر صلابة، من خلال تبني سياسات اقتصادية واجتماعية عادلة وشفافة، تضمن حماية حقوق المواطنين وتعزز قدرتهم على الصمود والمشاركة.

تجاوز حدود الإصلاح التقليدي: نحو رؤية تحويلية

إن المقاربات الإصلاحية التقليدية، التي تركز على تعديلات جزئية ضمن الإطار القائم، قد لا تكون كافية لمواجهة التحديات البنيوية العميقة. فالتغيير الحقيقي يتطلب رؤية تحويلية تتجاوز مجرد “ترميم الواجهة” إلى “إعادة بناء الأساسات”. إن مقاومة الإصلاحات الجوهرية (كاستقلال القضاء، وشفافية الإدارة، وإصلاح المالية العامة) من قبل بعض القوى المستفيدة من الوضع الراهن، تؤكد الحاجة إلى مقاربة أكثر جذرية.

إن بناء حوكمة رشيدة في لبنان ليس مجرد هدف تقني أو إداري، بل هو مشروع وطني يتطلب إرادة سياسية قوية ودعمًا شعبيًا واسعًا. فالهدف هو بناء دولة قادرة على خدمة جميع مواطنيها بكفاءة وعدالة، دولة تكون فيها المؤسسات قوية والمواطنة هي الأساس.

نحو مقاربة بناءة: التركيز على الحلول وفرص التغيير

إن الخروج من التحديات الراهنة يتطلب التركيز على الحلول البناءة وفرص التغيير المتاحة. فبدلًا من التركيز فقط على المشاكل، يمكن العمل على:

أـ تعزيز ثقافة المواطنة: بناء عقد اجتماعي جديد يرتكز على المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، ويتجاوز الانتماءات الضيقة.

بـ تمكين الرقابة المجتمعية والمؤسسية: دعم وتفعيل هيئات الرقابة المستقلة وتشجيع المشاركة المدنية في مراقبة أداء المؤسسات العامة.

ج- دعم المبادرات الإصلاحية الجادة: تشجيع ودعم القوى السياسية والاجتماعية التي تتبنى رؤية إصلاحية شاملة وتعمل على بناء بدائل حقيقية.

د- تجاوز منطق التوازن الهش: بناء سردية وطنية جديدة تؤكد أن الاستقرار الحقيقي لا يتحقق إلا من خلال دولة قوية وعادلة ومؤسسات فعالة، وليس عبر تسويات مؤقتة.

الحوكمة كمشروع أمل وتغيير

إن تحديات الحوكمة في لبنان، رغم عمقها، لا يجب أن تدفع إلى اليأس. بل على العكس، يمكن النظر إليها كفرصة لإطلاق حوار وطني شامل حول مستقبل الدولة والمجتمع. إن بناء حوكمة رشيدة ليس مجرد وصفة تقنية، بل هو مشروع سياسي واجتماعي تحويلي، يتطلب تضافر جهود جميع المخلصين لإعادة بناء الدولة على أسس المواطنة والعدالة والسيادة والقانون. إن الإرادة الشعبية نحو التغيير، مقترنة برؤية إصلاحية واضحة، يمكن أن تفتح آفاقًا جديدة لمستقبل أفضل للبنان، دولة قادرة على الاستماع إلى تطلعات مواطنيها والاستجابة لها بفعالية.

* نشرت على موقع الحوار نيوز بتاريخ 4 حزيران 2025