ثقافة

ميل جيبسون يطلق فيلمه الثاني عن المسيح بعد هزّه مضاجع هوليوود

يوسف القيس

من منا لا يعرف السيد المسيح ؟

هذه الشخصية العميقة روحيًا و ماديًا، تنظر إلى هذا العالم بعين مجبولة بلاهوتية خلاصية لا تعرف جفونها  القشور، شخصية ضمت في طياتها عناصر الكمال كافة، فتسارعت الافلام من كل حدب و صوب إلى إعادة رسم حياته على الأرض، تلك الرحلة التي ضجت بثقل وجودي قل نظيره في هذا العالم .

على مدار عقود جذبت حياة السيد المسيح أهم المنتجين وصناع السينما فى هوليود، ممن حاولوا ويحاولون تناول شخصيته، والأحداث التى عاشها من زوايا مختلفة ظهرت على مر السنوات الماضية، من خلال عدة أفلام بعضها مر مرور الكرام على المشاهد، بينما خلقت أفلام أخرى جدلًا حول العالم مثل:

the robe 1953 – the king of kings 1961 – the Jesus 1979 – the last temptation of Christ .

و بالرغم من الاعمال الكثيرة التي تناولت حياة المسيح، الا انني لم و لن اجد اقوى و اعمق من تحفة “ميل جيبسون” الخالدة “الام المسيح” أو The Passion of the Christ التي صدرت في سنة 2004.

قدم “جيبسون” لنا وجبة عميقة من حياة السيد المسيح على الارض، من حيث بنيتها الفريدة والاستثنائية والمتميزة بها عن اعمال اخرى، فكانت الرسالة الاقرب للمشاهد باسلوب فذ وحقيقي في تناول الساعات الاخيرة التي عاشها يسوع قبل صلبه، تالقت عدسة جيبسون لنكون متحدين بعمله هذا عبر ادخالنا ابواب هذا الحدث، وتقربنا لواقعيته الاستثنائية مع نظرة فريدة في سرد الاحداث ضمن خط زمني كسر الحاجز الكلاسيكي المعتاد للمشاهد وقدم له منحى اعمق وادق في فلسفته الدينية والروحية الاكثر من رائعة .

عمل متماسك إلى ابعد الحدود إن كان في نقل الزمن والحقبة التاريخية وتجسيدها بواقعيها المكاني والروحي، أو بتجسيد الشخصيات وتقديمها عبر اداء تمثيلي مذهل، واخص هنا بالذكر “جيم كافيزيل”، الذي برع في تجسيد شخصية المسيح بكل ابعادها (في رايي هو الدور الاروع في مسيرته الفنية على الاطلاق)، إلى جانب “مايا مورجينسترن” بدور مريم العذراء و”مونيكا بلوتشي” بدور مريم المجدلية  .

لم اجد في أي فيلم للمسيح، ما وجدته في تحفة “جيبسون” التي غردت خارج السرب التقليدي وسافرت بنا إلى حيث يريد شغفنا السينمائي .حيث تَنَقّل فيها ضمن عالمنا المادي و الروحي في الوقت نفسه .

اثناء الساعات الأخيرة للمسيح نرى امتحانات، و تدخلات مباشرة للشيطان بهدف اسقاط هالة المسيح وإزاحته عن طريق أبيه … نراه يجتهد و يبذل قصارى جهده في إفشال خلاص النفوس .

أظهر لنا “جيبسون”هذه المعركة مباشرة في لوحة أتقن نحتها واعتنى بأدق تفاصيلها، لتظهر كاملة متكاملة في مشاهد ظهر فيها الخير والشر، الابيض والاسود متواجدين وواضحين في مكان واحد، لكن ضمن خطين لا يلتقيان .

إنَّ أعمق المشاهد وأكثرها ملحمية بالنسبة لي، مشهد العذراء عندما طلبت أن تتواجد أثناء تعذيب ابنها الوحيد، لنرى في الوقت نفسه الشيطان ظاهراً حاملًا ابنه بين ذراعيه يقف مقابل العذراء، وينظر عليها وكأنه يقول لها: “ابني معي، أما ابنك انت فهو بعيد عنك” .

كأنه يقول ليسوع ايضاً وهو يُقاسي من جلدات مرعبة بلا شفقة أو رحمة : “أترى، أنا أحمل ابني بين ذراعيّ وفي حضني، وأنت أين هو أبوك ؟ لماذا لست في حضنه ؟ ألست أنت الابن الذي في حضن الآب ؟ لماذا تركك هكذا ؟ أيحبك حقًا ؟ انظر كم هو بعيد عنك، لا يسمعك ولا يعلم ما يحصل بك”.

مشهد سريالي تقشعرّ له الأبدان قويّ في العمق والمضمون وابداعي في الاسلوب والتنفيذ بشكل تعجز الكلمات عن وصفه، فاكتفت الصورة بالتحدث عنه .

من الاوراق الناجحة التي قدمها “جيبسون” هنا، هي اظهار هذه المواجهة التي كانت تحصل في نفس وقت وجود المسيح على الارض، هذه المواجهة كانت تُظهر المحاولات والاساليب التي انتهجها سيد الظلام ليقف في وجه رسالة المسيح، مواجهة روحية و فلسفية صرف كانت الاقوى والاضخم من اروع المحطات واعمقها في تاريخ السينما، عدسة ادخلتنا لنرى عن قرب صراع الخير والشر بعنوانه العريض، عبارة عن لوحة لاهوتية تضج بالصور والمعاني الروحية، ممزوجة  بالمشاهد الواقعية للتعذيب والاكثر قربًا للحقيقة وصولًا الى الصلب .

عندما اجرى الممثل الأميركي “جيمس كافيزيل”من مواليد 26 سبتمبر 1968 مقابلة تلفزيونية عن تأديته لدور المسيح سأله المذيع عن شعوره وهو يجسد شخصية يسوع فقال مبتسمًا: “لقد شعرت انني غير متأهل لذلك بالطبع..هذا عمل جليل لا استحقة…..الحقيقة انا كنت مليء بالخطايا وبالفعل هذا الدور غيَّر حياتي بالكامل، فقد عرفت معنى الصلاة الحقيقية  والمحبة التي لا نجدها في اي احد إلا في يسوع”. (بالفعل اصبح “جيمس كافيزل” من اكبر الواعظين في الكنيسة الكاثوليكية.. وعضواً في هيئة الوعظ لجامعة بوسطن .. وتبنى طفلين من الصين كجزء من اعماله الخيرية)

وعن سؤاله بالنسبة للجروح الكثيرة التي ظهرت في الفيلم لدرجة ان الناس كانوا يلفتون انظارهم عن منظر الجلد والعذابات.. رد “جيمس”: “حقًا كان تمثيل الجروح والمكياج مرهقًا جداُ، فقد أُصبت بضربة حقيقية من السوط لكن لحسن الحظ كانت طرفية، اوقفنا التصوير لأيام  ، وفي مشهد الصليب ايضًا أُضطروا لتخدير ذراعي كي ابقى كل هذه المدة الطويلة لدرجة اني قد اصبتُ بنزلة برد”.. وفجأة بدا يدمع قائلًا: “اني وإن كانت اصابتني هذة الجروح البسيطة في التصوير فما بالنا أن المسيح قد ذاق اكثر من هذه الآلام حقًا و استطرد قائلًا : ” يتحدث البعض عن المبالغة في الآلام واظهار الصور المهينة للمسيح لكني اريد أن اقول لهم ان كل ما شاهدتموه في الفيلم ما هو إلا جزء من خطيئتنا الجسيمة، ومن يعرض بنظره عن مشهد الجلد اقول له انظر هذه خطيئتي وخطيئتك وخطيئة كل البشر، الذين من اجلهم نزل يسوع إلى الارض وذاق كل الهوان”. وانهمر في البكاء، ثم اكمل: “عندما اعلمني “ميل جيبسون” (مخرج الفيلم) عن بدء التصوير ظننته في البداية أنه فيلم درامي عادي لا يحتاج لهذا المجهود الكبير، لكني عندما تلمست شخصية المسيح، علمتُ كم أني حقير لا اساوي مقدار ذرة في الشخصية التي سأقبلها…. و انهى حديثه قائلًا:” اود أن اقول أريد من أخوتي في اليهودية مشاهدة هذا الفيلم، أريد من الناس الذين يعتقدون أنها معادية للسامية مشاهدة هذا الفيلم، أريد من الناس غير المتدينين مشاهدة هذا الفيلم لأننا كلنا مسؤولون عن آلام يسوع “.

تحفة خالدة لا مثيل لها ومن الاعمال التي تركت بصمة حية على مستوى العالم  حتى هذه اللحظة  في تفردها و عمقها.

★شهادات حية★

“بيدرو ساروبي” رجل يحب التحديات والمغامرات، ترك بيته منذ الصبا والتحق بفرقة سيرك ثم جاب العالم معتقدًا حسب كلماته “أن بإمكانه في مكان ما أن يملأ الفراغ الداخلي العميق” الذي كان يشعر به.  فتوجه إلى معبد “شاولين” في الصين لتعلم فنون القتال، ثم ذهب إلى “التيبت” فارضًا على نفسه الفراغ والصمت التام لستة أشهر لبلوغ حلم التنوير البوذي، إلا أن قلقه الوجودي لم يتوقف.

وفي الهند مارس التأمل وصولًا لأقصى حدود ممكنة، ثم أقام بعد ذلك في الأمازون في البرازيل حيث تعلم البرتغالية، وكان في الوقت نفسه يمارس التمثيل ما بين رحلة وأخرى.

تعود رحلته مع التمثيل إلى مشاركته في الثامنة عشرة من العمر في أعمال مسرحية ثم في إعلانات وأفلام إيطالية مستقلة. تخصص في الكوميديا ثم راوده حلم الإخراج لشعوره بطاقته المكبوتة، ويقول: “كنت أشعر بنفسي وكأني نمر حُبس في خيمة سيرك”. ثم بدا أن هوليوود تبتسم له حين عُرض عليه دور صغير في فيلم “ماندولين العميد كوريللي” عام 2001، إلا أن لحظة الشهرة المرجوة لم تصل ولم يزل فراغه الروحي العميق باقياً.

تلَقى “ساروبي” مكالمة هاتفية لأداء دور في فيلم من إخراج “ميل غيبسون” واعتقد أنه أحد أفلام الحركة والمغامرات، لكنه فوجئ بأنه فيلم يروي آلام المسيح، موته وقيامته. ويقول: “لم أتخيل أبدًا أن بإمكاني التمثيل في فيلم حول آلام المسيح، لأني كنت بعيدا جداً عن الكنيسة “.

لكنه تمنى أن يلعب دور “بطرس” الرسول وشعر بخيبة أمل حين أخبرهً “غيبسون” أنه سيؤدي دور “بارابّاس”، ويؤكد “ساروبي” أنه لم يتطلع إلى أداء دور “بطرس” الرسول انطلاقًا من دوافع روحية، بل لأن أجر يوم التصوير كان أكبر لمن يمثل هذا الدور، وكان دور “بارابّاس” قصيرًا في الفيلم .

يقول “ساروبي” :” شكوت من اقتراحهم علي هذا الدور الصغير رغم كوني ممثلاً شهيراً”، لم تنجح محاولاته وانتهى به الأمر بتمثيل شخصية “بارابّاس”، إلا أن فترة التصوير القصيرة تلك شكلت خطوة حاسمة وأساسية في حياته.

تحدث إليه “ميل غيبسون” قبل بدء التصوير بأيام لإعطائه المزيد من التفاصيل حول الشخصية، وكان لنقطة محددة أشار إليها “غيبسون” تأثير كبير على “ساروبي”، حيث أخبره بأن شخصية “بارابّاس” تفترض انه قد عُذب بشكل كبير، وبدأ يتحول إلى شبه حيوان وحشي لا يتكلم بل يعبِّر بالنظرات فقط، وأضاف المخرج: “ولهذا اخترتك، حيث بدا أنك تجسد بشكل جيد هذا الكائن الوحشي، لكنك تملك في أعماق قلبك رغبة إلى من يعطيك الامل لتكون انسانًا صالحًا”.

خلال أيام التصوير القليلة راقب “ساروبي” زميله بطل الفيلم، “جيمس كافيزل” الذي أدى دور يسوع المسيح، وذلك خلال تصوير المشهد الذي تطلب فيه الجموع إطلاق بارابّاس وإهلاك يسوع.

في تلك اللحظة أصبح “ساروبي” وبارابّاس شخصاً واحداً، وخلال التصوير لم يكن “ساروبي” يمثل بل عاش الحدث واللحظة بكل كيانه، شعر في جسده بكامل ذبذبات الحدث ، وعندما تم إطلاق بارابّاس، ألتقت عينا “ساروبي” بعينَي يسوع، ويصف الممثل اللحظة بهذه الكلمات: “كان لها تأثير ليس له وصف، شعرت وكأن هناك تياراً كهربائياً يربط بيننا. فقد رأيت يسوع الحقيقي”.

ومنذ تلك اللحظة يؤكد الممثل الإيطالي أن كل شيء في حياته قد تغير، وزارت روحه أخيراً تلك السكينة التي بحث عنها لسنوات من خلال عشرات الرحلات. ويضيف: “حين نظر إليّ لم تكن عيناه تحملان كراهية أو مُعاتبة تجاهي، بل رحمة ومحبة عميقه لا مثيل لهما”

بدأ بعد ذلك  بقراءة الكتاب المقدس بنهم لفهم حقيقة شخصية يسوع المسيح ومسألة الفداء والخلاص ويقول وجدت ضالتي بعد 50 عامًا من البحث.

يروي “بيدرو ساروبي” ارتداده هذا في كتاب بعنوان “من بارابّاس إلى يسوع، مُرتد بفضل نظرة”

★معلومات حول الفيلم★

-اضطر “كافيزيل” تصوير خمسة أسابيع إضافيّة لمشاهد الصلب وقضاء فترات طويلة معلقاً على الصليب لضمان أفضل  المشاهد .

– إصابته بخلع في كتفه إثر سقوط الصليب الذي يزن 75 كيلوغراماً عليه .

– كما تعرض أثناء ضربه بالسواط لضربتين فعليتين من دون قصد، مما أدى لتوقيف التصوير ثلاثة أشهر، تركت إحداهما ندبة دائمة على ظهره طولها 35 سنتمتراً .

– وتعرض لصاعقة برقية مرتين، وأصيب بمرض هبوط الحرارة بسبب برودة الطقس الشديدة في إيطاليا أثناء تصوير مشاهد الفيلم.

– كان عمر “كافيزيل” يتطابق حينها مع عمر المسيح عند وفاته (٣٣ عامًا) وأول حرفين من اسمه بالإنجليزيّة JC ، ويعترف انه كان ”وبكل صراحة مرعوبًا.”

– حذر المخرج “ميل غيبسون” “كافيزيل” من أنّه قد يُصبح بقبوله لعب دور المسيح منبوذاً من هوليوود، فأجاب “كافيزيل”: “ميل، هذا هو ايماني. على كلّ واحد منا أن يحمل صليبه، إن رفضنا حمل صليبنا يسحقنا بثقله. فلنقم بذلك”.

يعتبر هذا العمل، الفيلم المستقل الأعلى تحقيقًا للايرادات في تاريخ السينما العالمية، فبعد أن رفضت جميع شركات الانتاج في هوليوود تمويل الفيلم، قام “ميل جيبسون” وقتها بانتاج الفيلم على نفقته الخاصة وكانت تبلغ 30 مليون دولار وقد جنى ارباحاً في شباك التذاكر حوالي 612 مليون دولار .

في انتظار الجزء الثاني الذي سيصدر قريباً تحت عنوان القيامة، حيث أكد “كافيزيل”، أنه سيلعب مجددًا دور المسيح في الفيلم المنتظر، ومحوره قيامة المسيح حيث قال: “لا أستطيع البوح ببعض الأمور التي من شأنها أن تصدم الجمهور، لكن العمل رائع فترقبوه، لن أخبركم عن مراحل العمل لكنني أقول لكم إن الفيلم الذي هو على وشك صناعته سيكون أهم فيلم في التاريخ فهو رائع إلى هذا الحد”.

Leave a Comment