جريدة النهار/ 6 أيار 20222
ليس تفصيلاً أن يقرر تنظيم يساري خلْع عباءة الشيوعية والانتساب إلى خيار الاشتراكية الرحب، وهو كان شكَّل خلال الحرب الاهلية طرفاً رئيسياً بقيادة الراحل محسن ابرهيم. الكلام هنا عن #منظمة العمل الشيوعي في لبنان التي تحولت إلى منظمة العمل اليساري الديموقراطي العلماني، وإن كانت بنيتها الحزبية تقلصت بفعل ظروف الانكفاء واتخاذها مسافة من الاصطفافات في البلد. حسمت المنظمة في مؤتمرها الخامس الذي عقدته في آذار الماضي، هويتها الفكرية الجديدة، وهي عاودت الانطلاق بصيغة جديدة في غياب ابرهيم الذي تحيي ذكرى رحيله الثانية خلال الأيام المقبلة، ومنه استمدت أساس المراجعة التي خاضها منكفئاً عن أي موقع.
لعل الانطلاقة الجديدة بالهوية اليسارية تفتح على نقاش في شؤون اليسار اللبناني ومستقبله، والإجابة عن أسئلته وأسباب ضموره، وهو أمر مفصلي في تغيير المنظمة هويتها بتأسيس جديد متحرر من الحتميات كما توضح وثيقتها الفكرية. لكنْ لغياب محسن ابرهيم تأثير كبير على مسار هذه المنظمة التي بدت كأنها ناشئة بما تبقّى لها من رصيد حزبي. وهي تخلع عباءة الشيوعية اليوم كان لها دور رئيسي مع الحزب الشيوعي في جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، إذ إن ابرهيم أطلق مع جورج حاوي الجبهة في 16 ايلول 1982، إلى أن افترقا، الحزب والمنظمة، في تحديد معنى اليسار، لذا لم يكن سهلاً إعادة اطلاقها من دون محسن ابرهيم الذي طبع اسمها وموقعها طوال 50 عاماً.
يصح القول إن عودة نشاط هذه المنظمة جاءت من مداخل عدة، من الانتفاضة والمشاركة الشعبية في محاولة لإعادة البناء في مواقع ديموقراطية، وبدا كأنه ولادة جديدة، لكن من دون رهانات كبرى ولا أوهام في ظل وضع لبناني معقد وصراعات طائفية وسياسية مُحكمة، وقبل ذلك وصاية سورية دفعتها الى الانكفاء وخسارة الكثير من رصيدها حتى بات لا أحد يسمع بمحسن ابرهيم باستثناء المطالعة السياسية والمواقف التي أعلنها في تأبين رفيقه جورج حاوي قبل 15 سنة.
في مؤتمرها الاخير حسمت المنظمة اسمها اليساري، ولم تعد مغلقة وبات التواصل مع الفئات اللبنانية الاوسع اساساً في بناء علاقات جديدة من مدخل ديموقراطي واضح. فلا مشكلة بالجلوس الى أحزاب على المقلب الآخر مثلاً طالما أنها اتخذت خيارات خارج السلطة رغم الخلافات حول قضايا أساسية، لكن الاهم هو محاولة استكشاف إمكان متجدد لمواجهة معضلات البلد في ضوء فشل كل التجارب السابقة. فبالنسبة إلى منظمة العمل اليساري ان استمرارعوامل التأزم المتداخلة التي يعانيها الكيان اللبناني، مصدرها طبيعة النظام الموروث وتجدد بُنى قوى السلطة كقيد معطل لمسارات التطور ومنتج دائم لعدم الاستقرار والفساد السياسي وأزمات الحكم، ومولّد خصب لمشاريع الهيمنات الطائفية والنزاعات والحروب الأهلية بين قواه المغلقة على الاصلاح والحداثة. أما منظومة القوى الطائفية، فتتشكل من ردائف متوازية، على صعيد البنية والخطاب الفئوي والأداء الميليشيوي في ميادين الصراع الدائم لتقاسم النفوذ والمغانم.
يتقدم موقف المنظمة من “حزب الله”، فهي ترى أن انجاز تحرير الاراضي اللبنانية المحتله من العدو الاسرائيلي، الذي استكمله الحزب، والذي بدأته جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية التي كان لليسار فيها دور مميز، قد انتهى أسير المكوّن الطائفي الشيعي حصراً. فخطر العدوان الصهيوني الدائم لا يبرر اطلاقاً استمرار سلاح الحزب على النحو الذي يبرزه لأنه اصبح سلاح استقواء لفرض هيمنته على اللبنانيين. وهي ترفض احتكار حق الدفاع عن لبنان وحماية حدوده وموارده أو تلزيمه لأي طرف، لأن ذلك يشرّع استنساخ دويلات الأمر الواقع الميليشيوي المتشابهة والرديفة، ويكرّس شرعية مشاريع الهيمنة الطائفية، ويضعف المناعة الوطنية امام القوى الاقليمية والدولية المتصارعة في المنطقة وعليها. وبالنسبة إليها المدخل الطبيعي والوحيد لمعالجة معضلة سلاح الحزب، يكمن في أولوية إعادة الاعتبار لمشروع بناء الدولة الوطنية الديموقراطية، التي وحدها تملك حصرية حق حمل السلاح واتخاذ قرارات السلم والحرب عبر مؤسساتها السياسية.
الأهم في هذه التجربة أنه بعد سنتين على رحيل محسن ابرهيم تخرج منظمته بهوية فكرية جديدة متحررة من الانكفاء والعزلة إلى الفضاء اللبناني، لكنها تخرج جريحة وبنيتها الحزبية مقوّضة، ومعها اليسار كله. فبقدر ما كان ابرهيم منكفئاً، كان أيضاً يجري مراجعة نقدية تسلحت بها المنظمة “الوليدة” متحررة من حالة الانكفاء إلى النشاط الحزبي والمشاركة الفاعلة منذ انتفاضة 17 تشرين الاول 2019، ومتحررة أيضاً من أوهام الموقع لكن بالعمل على إعادة تشكيله من مدخل مستقل بعيداً من الرهانات الملتبسة. إعادة اطلاق المنظمة اليسارية لن يختصرها اليوم موقع واسم ولا قيودهما. هي تطرح تساؤلات حول دور اليسار وقدرته على اعادة التجديد والمراجعة للبناء بخيارات فكرية وبرنامجية مختلفة، لكن هذا الأمر لا يتقرر ببيان ولا بوثيقة، انما بعملية تأسيس معقدة. هذه العملية لم يعد يختصرها اسم ابرهيم، بل الامر يتعلق بمدى الاستمرارية والقدرة على اجتذاب فئات تستطيع أن تحمل خيارات مستقلة بعنوان يساري جديد، اضافة إلى أن التغيير في ظل صراعات الطوائف يحتاج الى نضال طويل وصعب والكثير من الصمود. فبناء اليسار مجدداً وعملية التغيير مسألتان شاقتان، إذ إن الطوائف كتل لا يمكن خرقها وهي مستعدة للمغامرة بالبلد، لذا تبدو المهمة شاقة في محاولة إعادة الاعتبار لمعنى الأفكار وللسياسة والدور.
اليسار كله، كان أسير الماضي ويستند إليه. ربما سيكون انصافاً لهذه المنظمة أنها تجرأت على الخروج من عباءة الجمود وتقدمت بمراجعة نقدية ليس لإقناع أطراف السلطة والوصاية بالاعتراف بها، وليس اعتذاراً، إذ إن اليسار لا يمكن أن يكون مؤثرا بالتحاقه فيها.
ربما يمكن القول اليوم إن محسن ابرهيم لم يكن يريد أن تعاود منظمته الانطلاق باسمه، فتأثيره وسطوته وتجربته كانت تطغى على أي عملية خروج إلى العلن بحلّة جديدة، ولكن إذا قيّض لنا الاطلاع على المراجعات والنقاشات التي قادها سنكتشف عمق الغنى الفكري في التجديد اليساري، وهي بالتأكيد تفتح على مجالات أرحب لإعادة بناء يسار ديموقراطي علماني بعيداً من الهياكل الجامدة الأسيرة للماضي ولأمجاده التي تلاشت وانتهت معها الحياة السياسية في البلد.
Leave a Comment