زاهي البقاعي
لجمت الاتصالات السياسية الاميركية المصرية القطرية جولة القتال الأخيرة في قطاع غزة، بعد ثلاثة أيام من الغارات واطلاق الصواريخ والقذائف بين كل من جيش الاحتلال الاسرائيلي وحركة الجهاد الاسلامي، والتي أسفرت عن سقوط أكثر من أربعين شهيداً ومئات الجرحى وتدمير عدد من أحياء القطاع، بينما اقتصرت الخسائر البشرية والاقتصادية في الجانب الاسرائيلي على عدد محدد من الاصابات، وتعطيل مطار بن غوريون لبعض الوقت واضرار طفيفة. على أن التهدئة الحاصلة لا يمكن وصفها بأنها راسخة، بالنظر إلى ما أدلى به الطرفان من مواقف حول الشروط التي جرى تبادلها من خلال الوسطاء، ما يمهد للاشتعال مجدداً.
وقد أثارت هذه المعركة الكثير من الأسئلة حول دلالاتها، بالنظر إلى أنها ليست الأولى التي تخوضها حركة “الجهاد الإسلامي” وحيدة، في مواجهة الاستهداف الإسرائيلي، بمعزل عن حركة “حماس” وسائر الفصائل الفلسطينية. والواقع أن الجهاد ومنذ معركة العام 2019، باتت تخوض معاركها منفردة وفق حساباتها الخاصة. ولذلك تتشابه معركة الأمس مع ما حدث في اعقاب اغتيال القيادي في “سرايا القدس” بهاء أبو العطا. لكن المعركة الحالية تبدو أكثر قساوة على “الجهاد”، مع سياقاتها، وأهدافها، ورسائلها الإسرائيلية التي اتخذت حدّة أكبر مما كان عليه الحال قبل أكثر من عامين.
وخلال المواجهة الأخيرة وجه الجيش الاسرائيلي ضربات موجعة للجهاد الإسلامي وقادتها العسكريين عبر عمليات اغتيال وتدمير مدروسة، ما يدلل على أن إسرائيل جمعت معطيات أمنية وعسكرية قبل اعتقال القيادي في الجهاد بسام السعدي من مخيم جنين في الضفة الغربية. وبدت الهجمات الاسرائيلية على “الجهاد” مفاجئة لها، أهدافاً وتوقيتاً وتأثيراً على بنيتها القيادية العسكرية في القطاع، لكنها تتجاوزه بالنظر إلى ما تبع اعتقال السعدي من حملة اعتقالات منظمة في الضفة، تتويجاً باغتيال عدد من القيادات الميدانية لحركة فتح في نابلس والشباب في مدينة الخليل بعد الوصول إلى التهدئة. ما يعني أن الحملة التي وصفتها الاستخبارات الاسرائيلية بأنها تدخل في باب الأمن الوقائي لمنع الجهاد من تنفيذ عملية كبيرة كانت تخطط لها منذ بعض الوقت خلال شهر ايلول المقبل، أكبر من ذلك بكثير وتصب في مجرى السياسة الاسرائيلية التي تستهدف كسر إرادة الفلسطينيين، بالاستناد إلى ميزان القوى المختل لمصلحة سياسة التهويد والاستيطان في الضفة والحصار في القطاع.
وعلى الرغم مما أشارت له مصادر في حركة حماس عن تنسيق مع الجهاد وباقي الفصائل في اطار “غرفة العمليات المشتركة”، وأن “حماس” حاضرة سياسياً وعسكرياً في قلب المعادلة، وأن وجود “سرايا” الجهاد في صدارة الرد، هو ضمن تفاهم متفق عليه، مسبقاً بينهما، ما يدفع إلى إدارة المعركة بطريقة محددة؛ منعاً لتطور العدوان إلى حرب مفتوحة، وحفاظاً على استمرار زخم القتال طيلة فترة التصعيد. فقد بدا واضحاً من الاستهدافات العسكرية الاسرائيلية أن التركيز ينصب حصراً على قيادات ومراكز الجهاد، في سياسة تستهدف الفصل بين الفصيلين. وهو ما يمكن القول إنه ترجمة متجددة لسياسة الفصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة، أي بين حركتي فتح وحماس التي اعتمدها رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو، وقادت إلى اتهامات متبادلة بين الطرفين وصلت حدود التخوين. ومع أن الجهاد حرصت على ” تبريد ” عملية استفرادها، وكذلك فعلت حماس، الا أن سيلاً من الاتهامات اصدرته بعض الأوساط المقربة من الأولى، التي أرادت من حماس الانغماس في المعركة، ما يقود إلى تصاعد وتيرة القتال، وتوسع نطاقه نحو حرب تشبه الحروب التي سبق وشهدها القطاع في السنوات السابقة، عندما أتاح مثل هذا الوضع للقوات الاسرائيلية ممارسة عملية تدمير ممنهج لمرافق ومؤسسات وأحياء أساسية في المدينة وضواحيها. من هنا مارست حماس سياسة الانضباط، وترك المجال مفتوحاً على الوساطات السياسية، ولكن في الوقت نفسه يفتح على احتمالات قد تدفع بالوضع نحو مزيد من التصعيد. اذن تصرفت حماس على أنها صاحبة القرار والسلطة في القطاع، وهو وضع له حساباته على صعيدها الخاص، والصعيد العام فلسطينياً وعربياً واقليمياً. وما عزّز مثل هذه الوجهة أن الدمار الذي شهده القطاع في المواجهات السابقة ما زال ماثلاً للعيان منذ سنوات طويلة، ما قاد إلى تفاقم أزمات العيش في القطاع على الصعد الخدماتية العامة، والاجتماعية الناجمة عن استمرار الحصار والعزل الذي يعانيه القطاع منذ تاريخ السيطرة من جانب حماس على القطاع، على حساب حركة فتح، وبالتالي السلطة الفلسطينية.
من خلال التصريحات التي أدلى بها مسؤولون ايرانيون وممثلي قواهم المحلية في المنطقة ، يتبين أن المعركة الأخيرة ترتبط على نحو محكم بسياق دولي – إقليمي. فعلى المستوى الدولي عادت فيينا لتشهد جولات من المفاوضات العسيرة بين الجانبين الاوروبي – الاميركي وايران حول الاتفاق النووي الموقع عام 2015 بعد مشروع الورقة التي أعدها الاتحاد الاوروبي. ما يعني أن ذلك يجب أن يترافق مع ضغوط متبادلة لتليين المواقف المتصلبة. ومثل هذا التوجه لا تستعمل فيه البراعة الدبلوماسية بقدر ما يتم اللجوء خلاله إلى الأدوات العسكرية والأمنية وغيرها. والواضح من التصريحات الايرانية أن جبهتي الشمال(لبنان) والجنوب ( غزة) كانتا المرشحتان لممارسة الضغوط على اميركا من خلال توجيه ضربات صاروخية لاسرائيل. وبصرف النظر عن “العنتريات” المعروفة حول إزالة اسرائيل من الوجود، والضربة الأخيرة لإنهاء الكيان الصهيوني وما شابه، إلا أن من الواضح أن اسرائيل قد أعدت عُدتها للحرب على جبهتي القطاع ولبنان. وهو ما يجد تفسيره في بنك الأهداف التي استهدفت سرايا القدس وقادتها. كما يدخل في هذا الاطار سيل التصريحات التي ذهبت إلى حد التلويح بالعودة لاحتلال صور وصيدا وبيروت، والتلويح بتدمير الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية . بالطبع يجب أن يرتبط هذا، بالموعد المحدد للشروع في استخراج النفط والغاز من حقل كاريش، وتصديره إلى اوروبا قبل موسم الشتاء المقبل. وهنا لا بد من القول إن ما أعلنت عنه الجهاد من أن عملية قصف المستوطنات الاسرائيلية في غلاف غزة كان رداً على اعتقال السعدي جاء ضمن المناخات التي أشرنا إليها، باعتبار أن سياسات الاستيطان والاعتقالات التعسفية هي ممارسة يومية، وهي جزء لا يتجزأ من إداء وسياسات الاحتلال الصهيوني للضفة الغربية، فضلاً عن استمرارها بالعمل على خنق القطاع، وتقطير الانتقال ووصول البضائع والحاجيات إليه، بما في ذلك سفر المرضى الفلسطينيين إلى المستشفيات في الضفة الغربية لتلقي العلاجات من الأمراض المزمنة، والتي يتعذر الحصول عليها في القطاع. ويبدو أن مشروع “وحدة الساحات” كان من شأنه أن يفتح أكثر من جبهة مع اسرائيل، ومثل هذا التطور كان بانتظار انطلاق التعليمات بالتدخل وتوسيع نطاق المواجهة، وهو ما لم يحصل على أي حال. وهنا يمكن تفسير الهجوم الاعلامي الحاد الذي تعرضت له حماس في الصحف المقربة من النظام السوري، التي كانت تراهن على أن عودة العلاقة بينها وبين حماس، وبين الأخيرة وايران وحزب الله ستدفعها نحو الانخراط بالقتال، وهو ما لم تنسق حماس في ركابه، باعتبار أن جملة علاقاتها العربية والدولية لا تسمح لها بركوب مثل هذا المغامرة، وخسارة ما حققته من طموح في استمرار الهيمنة على القطاع وإلى وراثة منظمة التحرير، واعتراف اميركي بها، وحلولها طرفاً مفاوضاً بدل المنظمة والسلطة الفلسطينية. من جهتها حركة الجهاد وجدت نفسها في موقع تفاوضي مع اطراف عربية واقليمية، ما يمثل نقلة في أوضاعها، ولعل هذا ما دفعها لقبول مبادرة وقف النار رغم ضبابية نتائج المسعى المصري لجهة الافراج عن السعدي المشكوك به واستمرار الاعتقالات والاغتيالات الاسرائيلية، وتوسيع نطاقها لتشمل حركة فتح. اذن لم تقد علاقات حماس المستعادة مع كل من النظامين الايراني والسوري ومع حزب الله إلى انخراطها في المعركة، التي خاضتها الجهاد وحيدة دون معين أو ناصر ميداني، ما أدى إلى اصابتها بخسائر فادحة، والخروج من المعركة دون تحقيق إنجاز على صعيد ما أعلنته من شروط للتهدئة.
ختاماً، يمكن القول إن أبرز ما أظهرته المعركة الأخيرة هو انكشاف الصراع على السلطة والنفوذ، والتنافس في الحصول على الموقع الأول من المرجعية الايرانية، التي تبدو الآن كما كانت، أكثر اقتراباً من الجهاد، دون القطع مع حماس المضطرة للدخول في حسابات معقدة بالنظر لمسؤولياتها وشبكة علاقاتها المتشعبة، ومثل هذا هو أكثر حضوراً في الحسابات الفئوية من الصراع مع الاحتلال، أو مصير القضية الفلسطينية وحساباتها وتعقيدات عودتها إلى الحضور في المحافل الدولية والعربية. وهذا بالضبط كان جذر المواجهة والصراعات التي لم تهدأ بعد بين حركتي “حماس” و”فتح”، وهو ماثل الآن في الخلافات المتصاعدة بين الأولى و”حركة الجهاد الإسلامي” في غزة. ومتواصل إلى أجل غير معلوم، ما دامت الحسابات الصغرى تطغى على حسابات القضية، التي تدفع أثماناً وخسائر باهظة لمثل هذه الانشطارات القاتلة التي تسهِّل استعمال العديد من قواها كأوراق ضغط في سوق التفاوض الدولي والاقليمي. لكن جذرية المشروع الصهيوني ومساواته بين الجهاد وفتح، وبالطبع حماس وباقي الفصائل، يؤكد على نحو لا يقبل اللبس والإبهام أن المستهدف هو الشعب الفلسطيني وقضيته، ما يجب أن يدفع إلى تجاوز الصراعات الفئوية الصغيرة لصالح الانخراط في مجرى الصراع الوطني الذي لا بديل عن حشد القوى للنهوض بأعبائه الكبرى.
Leave a Comment