بكل المقاييس، كان تقدّم الفصائل بقيادة “هيئة تحرير الشام” مفاجئاً جداً. والسيطرة السريعة على مساحات واسعة، من بينها مدينة حلب، ستلقي بآثارها الثقيلة على الأسابيع وربما الشهور المقبلة. وأول ما يمكن قول في هذا السياق، إن زلزال السابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر أثبت التردي المهول في قوة الأسد، وأن يحدث هذا وهكذا على رؤوس الأشهاد، بعد كل الدعم الذي ناله، فهو يشير إلى خلخل بنيوي يجعل تعويم الأسد ميؤوساً منه لدى دوائر صنع القرار الدولية.
ومن المؤكد أن معركة حلب على نحو خاص أثبتت أيضاً تراجعاً في القوة الذاتية للميليشيات التابعة لإيران. وكانت هذه الميليشيات خلال سنوات قد لعبت دوراً أساسياً في تحقيق انتصارات لقوات الأسد، عندما كانت مدعومة بالطيران الروسي، الذي يعتمد سياسة الأرض المحروقة. أيضاً، بلا مساندة من الطيران الروسي ظهرت قوة الميليشيات على حقيقتها، وبان معها حال رجل الشرق المريض.
ومع الوصف الأخير، يجدر الانتباه إلى أن جزءاً أساسياً من نجاح الفصائل كامن أصلاً في استغلال الضعف الإيراني، وعلى نحو يمكن القول إن إيران في سوريا ولبنان بمثابة الرجل المريض الذي يُنظر في وراثة تركته. وهذا بالطبع لا ينتقص من أهداف داخلية لمقاتلين يرون معركتهم سوريّةً خالصة، ومنهم مهجَّرون منذ سنوات من حلب وغيرها من المناطق التي سيطرت عليها الفصائل. بل يمكن القول أن المسارعة إلى استغلال الفراغ الذي يخلّفه الرجل المريض هو من طبيعة السياسة والحروب، وهذا ما قد يبرر السيناريوهات المتفائلة لدى بعض المعارضين، أو هو الأجدر بتبريرها من شعارات ثورية لا تُصرف في الميدان.
يبقى من الحصافة الانتباه إلى أن إيران لن تسلّم بهزيمتها بالسهولة التي رأيناها في حلب، بل يصحّ القول أن معركة حلب لم تحدث بعد، وأفضل السيناريوهات ينصّ على أنها لن تحدث. وحتى بموجب الأفضل فإن المواقف الدولية تشير إلى توقف هجوم الفصائل عند مدينة حماة، لترتسم بدءاً منها شمالاً الحدودُ الجديدة لسيطرة الأسد. والأخير (وفق هذا التصور) سيكون ضعيفاً جداً، بعد فقدانه الدعم الإيراني، وعلى ذلك سيكون مستعداً للقبول بشروط التسوية كما لم يقبل بها من قبل. التصريحات التركية العلنية لم تذهب أبعد من هذا المطلب، حتى إذا كانت أنقرة تتمنى للفصائل أن تكمل اجتياحها لمناطق سيطرة الأسد كلها، فهناك خطوط حمراء دولية لا يُسمح بموجبها لأنقرة بالمزيد من التمدد.
لكن هناك العديد من الاحتمالات المغايرة للتصور السابق، فإيران قد لا تسلّم بهزيمتها بسهولة، والأخبار الواردة من العراق تفيد بأنها سارعت إلى تحشيد للميليشيات الإيرانية والعراقية هناك من أجل الزحف إلى حلب. ولم يتأخر وزير خارجيتها في الذهاب للقاء بشار الأسد في دمشق، بعدما عاود الظهور، وقد لا يكون تواري الأسد في موسكو، أو تغييبه عن الأنظار، بلا مغزى، وإن كان من نوع مختلف عن التكهنات التي راجت حول تدبير انقلاب في دمشق.
إذا وصلت الميليشيات الإيرانية، بلا إعاقة لمسيرها، لمواجهة الفصائل، فوصولها يدحض جزئياً فرضية انتهاء النفوذ الإيراني تماماً، أو سريعاً، خصوصاً وأن مسار الميليشيات غير بعيد إطلاقاً عن العيون الأميركية في شرق الفرات. يبقى المحكّ الحقيقي في الدعم الروسي لتلك الميليشيات متى بدأت معركتها. وإذا قدّمت موسكو المساندة الجوية، فهذا يُنذر بتكرار سيناريو الأرض المحروقة الذي أثمر عسكرياً وسياسياً لصالح الأسد وحلفائه قبل ثماني سنوات. وإن كان من محفِّز لبوتين في هذا الخيار فقد لا تكون رغبته في دعم الأسد أو طهران، بقدر ما يكون متلهّفاً لإزعاج الأوربيين (على خلفية دعمهم أوكرانيا) بموجة جديدة من اللاجئين تشبه تلك التي تسبب بها قبل سنوات.
بالطبع يمكن القول إن روسيا غير جاهزة لتكرار التجربة القديمة، بسبب انخراطها التام في الحرب على أوكرانيا، وأولوية التصدي للقوات الأوكرانية التي استولت على أجزاء من روسيا. إلا أن افتراض عدم قدرة روسيا على المساندة الجوية في سوريا يحمل بعض المبالغة، لأن الإمكانية قائمة ولو لم تكن بالزخم القديم ذاته. والسلوك الروسي سيعطي إشارة إلى الوجهة التي ستأخذها الوقائع على الأرض. فالمساندة الروسية الفعّالة على النمط القديم، ولو نسبياً، تشير إلى احتدام الصراع. أما العكس فيشير إلى “تفهّم” موسكو لانقضاء زمن الوجود الإيراني في سوريا، وإلى انخراطها في تفاهمات تنظر إلى اليوم التالي.
بدوره، عدم انخراط روسيا لن يكون بمفرده مؤشراً على استقرار خطوط التماس، ومن ثم على اقتراب موعد التسوية النهائية. فالسيناريو الآخر، الذي لا يجوز استبعاده، هو أن يكون التغاضي عن دخول الميليشيات الشيعية محسوباً ومرغوباً فيه، تحديداً على القاعدة التي تقول أن الاقتتال بينها من جهة وبين هيئة تحرير الشام وفصائل أقل تشدداً من الجهة المقابلة؛ هذا الاقتتال كفيل بإنهاكهما، إن لم يكن بإنهائهما. بالطبع لن تكون المواجهة سهلة على أيّ من الجانبين، وستستغرق وقتاً قد يطول، إلا أن الأذى على المدنيين لن يكون بهول سياسة الأرض المحروقة الروسية، مع أنه سيشمل ضربات جوية مصدرها قوات الأسد، لن تفرّق كالمعتاد بين المدنيين والمقاتلين، لأن غايتها إيقاع الأذى والانتقام بموجب القاعدة القديمة إياها: الأسد أو نحرق البلد.
لقد قيل الكثير في الأيام الأخيرة عن أن الفصائل تعلّمت من دروس الماضي، وأنها صارت أكثر نضجاً وانضباطاً من قبل. وهذا ما يجب تعزيزه والمطالبة بالمزيد منه، إذا تحقق السيناريو الذي يُبقيها في المناطق التي سيطرت عليها مؤخراً، ومن بينها حلب. بخلاف هذا الاحتمال الذي قد لا يكون مرجَّحاً، يقتضي العديد من الاعتبارات أن تبتعد الفصائل عمّا لا يدخل أصلاً في صلب عسكرتها، أي أن تبتعد عن الانشغال بالقضايا المدنية كوسيلة تحكّم وسيطرة، في الوقت الذي تكون فيها مهدَّدة من خارج أماكن سيطرتها.
وإذا كانت هناك استفادة جوهرية من الدرس القديم، فينبغي أن تتحاشى الفصائل قتالَ المدن، وأن تترسّخ القناعة بأن حماية المدنيين، بتجنيبهم أذى الأسد وحلفائه، هي في رأس الأولويات. وربما تكون هذه القناعة ضرورية بالقدر نفسه أو أكثر لجهور واسع، كي لا يُشجَّع مقاتلو الفصائل على تضحيات مجانية، وكي لا يدفع المدنيون ثمن “صمود” محسومة نتائجه سلفاً بتفاهمات دولية. يجب ألا يكون ثقيلَ الوطأة قولُنا إن حلب، بأهلها وناسها، تستحق بشدة أن تُصان، سلماً وحرباً.
*نشرت على موقع المدن بتاريخ 3 كانون الاول 2024
Leave a Comment