أحمد بيضون*
يرتّب اللبنانيّ على نفسه عناءً ومشقّةً فادحين حالما يباشر النظر بعينين مفتوحتين في مستقبل بلاده وشعبه. أقول “بعينين مفتوحتين” وأقصد بما يلزم من جرأة العقل ولزوم الصدق في معالجة الوقائع ومخاطبة النفس والغير. وذاك أنّ تقليب الحال الراهنة على وجوهها واستطلاع ما يلوح في أفقها المحتمل لا يفضيان إلى شَيْءٍ يسيرٍ أو خطيرٍ ممّا قد يبيح لنا أن نستعيد فحوى العبارة المأثورة: “رُبّ ضارّةٍ نافعة.” بل الضارّة، فيما نحن فيه، سيتفاقم ضررها والنافعة لا يُرجّح لها تحقّقٌ أو استقرار.
لا تزال الحرب دائرةً ولا يبدو هيّناً استطلاع مسارها ومآلها القريبين ناهيك بأفقها البعيد وما يلوح فيه من حصائل محتملة. أسهل من هذا تسمية الملامح الكبرى لما جرى فعلاً وتبيّن ديناميّاتها الفاعلة الآن. بعد نجاحٍ بقي نسبيّاً جدّاً في احتواء الحرب في حدود “مشاغلةٍ” أريد بها “إسنادُ” المقاومة في غزّة، وهو احتواءٌ نصفه بالنسبيّة لإقدام الجيش الإسرائيليّ باكراً على خرق الحدود المرادة له مراراً، أطاحت إسرائيل هذه الحدود كليّاً، وذلك حالما مكّنها تطوّر الحرب في غزّة من تجهيز ما عدّته كافياً من قوىً على جبهتها اللبنانيّة للإقدام على تلك الإطاحة. أطاحت “المشاغلة” و”الإسناد” ومعهما نظريّة “الردع المتبادل” التي ألهمتهما وحملتهما إلى أمس. وكانت هذه النظريّة قد تكوّنت واستوت فرضيّةً معلنةً للمواجهة كلّها، من جهتها اللبنانيّة، قبل “المشاغلة” و”الإسناد” بسنين.
وأمّا ما عبّر عن سقوط هذه النظريّة فكان سلسلةً من الضربات الصاعقة المتتابعة مكّنت إسرائيل من إصابة حزب الله في جهازه القياديّ الأعلى حتّى قائده التاريخيّ ذي الموقع والمقام الفريدين في مساره كلّه. وهي ضرباتٌ كان قد سبقها، من بدء “المشاغلة”، ما دلّ على اكتناز الجانب الإسرائيليّ مخزوناً وطاقةً استخباريّين مهولين يدخلانها في دائرة الممكن، بل المرجّح الحصول. لم تصب هذه الضربات الجهاز البشريّ وحدهُ، بل أصابت البنية العامّة للحزب المسلّح وتجهيزه (بما في ذلك جهاز التواصل فيه) وأصابت مقرّاتٍ ومستودعات سلاحٍ متفرّقةً له.
على أنّ أفظع ما انتهى إليه العدوان إنّما هو تعميمه التهجير والتدمير (اللذين كان أثرهما قد لبث محصوراً، على الإجمال، في بلدات الحدود وقراه) إلى سائر ما اعتبرته إسرائيل مواطن لل”الحاضنة” أي مقاماً للشيعة اللبنانيّين في طول البلاد وعرضها. وهو ما كشف خواء الاستعداد اللبنانيّ الكلّي من الاستعداد للحرب. وهو أيضاً ما أخفق حزب الله كلّياً في مداراة ما أسفر عنه من تحطيمٍ لأطر العيش كافّةً، وهذا بلا بدائلَ يسع مئات الألوف من النازحين، وهم ذوو مشاربَ سياسيّةٍ متنوّعةٍ، أن يركنوا إليها. وإنّما كان المعوّل على السلطة اللبنانيّة المتهاوية وعلى الهيئات الأهليّة والمواطنين الأفراد في تدابير اتّخذت، لا هي وافيةٌ بالحاجات ولا هي مستدامةٌ، لمواجهة كارثةٍ مهولةٍ، مجهولةِ المدّة والعواقب.
هذا وقد زاد من الوطأة السياسيّة للإخفاق الذي مثّله سقوط عقيدة “الاحتواء” و”الردع” أنّ “الإسناد” نفسه (بما هو غايةٌ أولى لفتح الجبهة اللبنانيّة) لم يظهر له أثرٌ في مجرى العدوان على غزّة إذ لبث هذا العدوان ماضياً في سبُلهِ القبيحة كافّةً ولا يزال…
الآن يواصل حزب الله مقاومةً شرسةً لما زعمت القيادة الإسرائيليّة أنّه عمليّةٌ برّيّةٌ “محدودةٌ” في الجانب اللبنانيّ من شريط الحدود تريد بها إبعاد الخطر المباشر عن مستعمراتها الحدوديّة وتأمين العودة المأمولة للنازحين عنها. المقاومة شرسةٌ ولا يعرف إلى الآن ما أسفرت عنه الهجمات الإسرائيليّة بالضبط. ولكن يظهر أنّ العدوّ تمكّن، على الأقلّ، من اتّخاذ موطئ قدمٍ له في نقطةٍ أو اثنتين تتيحان تحكّماً بشطرٍ من شريط الحدود اللبنانيّ. وهو ما ينقل الجهد المقاوم، في هذا الشطر، من مهمّة صدّ العدوان إلى مهمّة ردّه من حيث أتى. هذا بينما يتواصل تبادل القصف ليبلغ عمقاً واتّساعاً متزايدين على جهتي الحدود: ترد صورٌ لدمارٍ محدود وأنباءٌ عن سقوط قتلى وجرحى في الجانب الإسرائيليّ. ولكن لا يبدو هذا كلّه مكافئاً بأيّ وجْهٍ لصور الدمار اللبنانيّ المهولة ولا لعدّاد القتلى والجرحى اللبنانيّين الذي راح يزداد شبهاً كلّ يومٍ بالعدّاد الغزّي.
هل ثمّة ما يشي بأنّ هذه المقاومة الضارية ستفلح في إجبار الحملة الإسرائيليّة البرّية على النكوص إلى ما وراء الحدود متخلّيةً عن هدفيها المعلنين، وهما تدمير الوحدات المقاومة وما تحت يدها من بنىً وتجهيزات في شريطٍ أُبقي تقدير عرضِه فضفاضاً وإخراج سكّان المستعمرات الحدوديّة من المرمى المباشر للمقاتلين المقابلين لهم؟ …وهذا فضلاً عن جعل السكّان أولئك بمعزلٍ من خطر تسلّل المقاتلين إليهم وقد جعله النموذج الغزّي هاجساً لا يفارق مخيّلتهم…
يستقي التعويل على ما يمثّله الجهد المقاوم من ردعٍ على سوابق شتّى توحي بنوعٍ من نفاد الصبر حيال تكاثر الإصابات البشريّة يحمل القيادة الإسرائيليّة على التراجع وتوحي أيْضاً باعتياد إسرائيل الحرب القصيرة والنكوص المرجّح دون الطويلة بما تفرضه هذه من تعبئةٍ متماديةٍ للاحتياط وتباطؤٍ في الإنتاج وانتكاسٍ للنموّ، وهذا إلى تضخّم الكلفة المباشرة للحرب ولعواقبها الاجتماعيّة، إلخ. هذا وسواه من دواعي الوهن الإسرائيليّ المفترض تجمله نظريّة “بيت العنكبوت” المشهورة. يفترضُ أيضاً أن يزيد الوهن وهناً تنامي الضغوط من الداخل ومن الخارج، كلّما طالت المدّة، لوقف الحرب والتسليم بمخرجٍ منها يأتي مخالفاً إلى هذا الحدّ أو ذاك لمشتهى السفينة الإسرائيليّة الأصلي.
على أنّ الركون الراهن إلى هذا كلّه (أو إلى ما ظهر منه) يضرب صفحاً، من جهةٍ، عن تحمّل القيادة الإسرائيليّة أثقال سنةٍ بتمامها من الحرب المفتوحة في غزّة والحرب الملجومة في لبنان، بما في ذلك تحمّل الضغوط الخارجيّة الشديدة لوقف العدوان على غزّة والضغوط الداخليّة الشديدة أيضاً لإبرام تسويةٍ يتمّ بموجبها تحرير الرهائن المتبقّين في قبضة حماس. يضرب الركون المشار إليه صفحاً أيضاً عن إعلان القيادة الإسرائيليّة مراراً توقّعها خسائر جسيمةً تتكبّدها إسرائيل في حربها على حزب الله. أخيراً، يضرب الركون نفسه صفحاً عن التأييد العريض الذي واكب به الرأي العامّ الإسرائيليّ إطلاق عجلة الحرب المفتوحة على لبنان وعن الضعف المريب الذي وسم الاحتجاج العالميّ على هذا الإطلاق سواءٌ أكان مصدره الدول والمجتمع الدوليّ أم كان هذا المصدر حشود المتظاهرين في شوارع الكبريات من مدن العالم أو في رحاب جامعاته العريضة النفوذ… ذاك تباينٌ بين الحالتين اللبنانيّة والفلسطينيّة يفيض استقصاء دواعيه عن حدود هذه العجالة.
قصارى القول أنّ الجهد المقاوم يعوَّلُ عليه في تحسين شروط الخروج من الحرب، وهذا إذا اقترنَ بطرحٍ سياسيٍّ يستعجلُ هذا الخروج أشدّ استعجالٍ ويخلّف وراءه أهدافاً من قبيل “الانتصار” في الحرب و”إسناد” المقاومة الفلسطينيّة وتظهير “وحدة الساحات”… فما هو مفترض التقديم فوراً هو وقف العدوان المتزايد الهمجيّة وما يجرّ في ركابه من قتلٍ وجرحٍ ودمار. يجب أن يلجم هذا كلّه بحيث يستبقى إمكانٌ مقبول لعودة جحافل النازحين كراماً إلى ديارهم.
وذاك أنّ طوفان النزوح الجاري (وهو خليقٌ بأن يُعتبر الواقعة السياسيّة الكبرى في هذه الحرب) لم يستوعبه المجتمع اللبنانيّ ولا هو سيقوى، بما تحت يده من موارد مختلفةٍ هزيلةٍ، على استيعابه. سيزداد النازحون أنفسهم ضيقاً بمعاناتهم كلّما تمادت واشتدّت وستزداد البيئات المضيفة ضيقاً بهم على الرغم من مظاهر تضامنٍ توجب الاعتزاز (ولكنّها موضعيّة) بادرتهم بها هذه البيئات، وهي لا تحجب رزوحهم على مصالح حيويّة لها وعلى انتظام مساقاتٍ أساسيّةٍ لحياتها، بما فيها الأمان المفترض من العدوان. هذا كلّه يواجه بطلب الخروج الفوريّ من الحرب وليس بالتشبّث المكابر بفرضيّة “الانتصار” أو أيضاً بفرضيّة الحرب المديدة و”الاستنزاف” الذي نزعم، وحالنا ما هي عليه، أنّه سيكون استنزافاً لإحدى الجهتين حصراً. هذا تشبّثٌ لا نصيبَ يُذكرُ منه، في كلّ حالٍ، للبيئات المشار إليها، وقد فُرضت عليها أثقال حربٍ لم ترَ نفسها، بأيّ وجهٍ، طرفاً في إعلانها ولا في خوضها.
وأمّا المرتكز لوقف الحرب فكان ولا يزال قرار مجلس الأمن ١٧٠١. وهو يقضي بإخلاء منطقة جنوب الليطاني من السلاح الأهليّ ووضعها في عهدة الجيش اللبناني والقوّة الدوليّة. وهو يقضي استطراداً بحصر السلاح الشرعيّ في يد الدولة. هذا كلّه يفترض وجوداً تامّاً للدولة أي تفاهماً وطنيّاً فوريّاً على انتخاب رئيسٍ للجمهوريّة وتشكيل حكومة وحدةٍ غير منتقصة الصلاحيّة. ففي هذا الظرف الخانق، تُفتقد خريطة طريقٍ جامعةٌ للبلاد ولا يسوغ البتّةَ لطرفٍ واحدٍ أن يمضي في قيادة البلاد على هوى موقعه ومنطق أحلافه.
هذا وكان نائب الأمين العامّ لحزب الله قد أبدى موافقةً على وقف النار بلا تعيينٍ لإطارٍ، أيّاً يكن، يندرج فيه هذا الوقف. بعد ذلك تولّى رئيس الحكومة المستقيلة التنويه بموافقة حزب الله (الممثّل في الحكومة) على التطبيق التامّ (من الجهتين الإسرائيليّة واللبنانيّة) للقرار ١٧٠١. على أنّ الناطق الإعلاميّ لحزب الله لم يصبر غير ساعاتٍ على هذا التصريح فأعلن موقفاً آخر لحزبه ردّ القديم إلى قدمه. وعند هذه النغمة في طنبورنا، تقف السياسةُ الآنَ مكتومةَ الأنفاس ويمضي موكب البطش الهمجيّ الإسرائيليّ في قطعه على لبنان واللبنانيّين طريق المستقبل.
ما الذي يبقى؟ تبقى “الحربُ الإقليميّةُ”، وهي مشتهى هذه القيادة الإسرائيليّة المسعورة من اليوم الأوّل في هذه الحرب، بل قبْلَه بكثير. وهي – أي الحرب – قد تتحدّث عن نفسها وعنّا، في أقرب الأوقات… وقد لا تفعل (بل الراجح أنّها لن تفعل) فتردّنا راغمين إلى وجوب التحدّث عن أنفسنا مرّةً أخرى. المؤكّد الآن أنّ الضيق الآخذَ بخناقنا لا يترك لنا شيئاً من نعمة الانتظار…
* مدونة الدكتور أحمد بيضون: “معاني المباني” 14 تشرين الاول/ اوكتوبر 2024
Leave a Comment