زكـي طـه
تسعة وسبعون عاماً مضت على اعلان لبنان كياناً وطنياً مستقلاً. لم يعرف خلالها لبنان ما يعانيه راهناً من انهيار كياني ودولتي ومؤسساتي واقتصادي واجتماعي ومعيشي، إلى حدٍ تحولت فيه ذكرى الاستقلال مناسبة باهتة ومجرد يوم عطلة لا أكثر ولا أقل، بينما الأزمة التي تعصف به مقيمة لا تتزحزح. سبق ذلك في عام 1920 إعلان تأسيس دولة لبنان الكبير برعاية من الانتداب الفرنسي، بديلاً عن متصرفية جبل لبنان، التي قامت على أنقاض الإمارتين المعنية والشهابية في ظل السلطنة العثمانية.
مائة عام مضت وانقسامات اللبنانيين الاهلية لا تزال تحول دون تشكلهم مجتمعاً موحداً. واستقلال الكيان لم يصبح حقيقة راسخة في وعي أبنائه، كما في يوميات حياتهم العامة والخاصة على السواء. ما يعني أن لبنان لم يتحول وطناً ينتظم أهله مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، في إطار دولة تحكمها المؤسسات والقوانين. وهو الحلم المفقود والأمل الضائع لغاية الآن في دهاليز محطات انفجار صراعاتهم الأهلية المتكررة، جرّاء خلافاتهم المستمرة حول مختلف شؤون الكيان والنظام، على غير انقطاع. وهي النزاعات التي تشكل بوقائعها ومعطياتها تاريخهم الحديث منذ ما قبل الاستقلال، كما لا تزال تظلل حياتهم وتأسر حاضرهم وتهدد مستقبلهم.
وفي هذا السياق تقع مسؤولية اللبنانيين عن بقاء بلدهم أسير الحروب الأهلية الداخلية والتدخلات الخارجية في آن. وفي امتداده يتواصل الامعان في رفضهم تحمل مسؤولياتهم عن إعادة بناء أهلية بلد يستحق استقلاله وصياغة هويته الوطنية وتطوير نظامه السياسي. هذا ما يضع قوى البلد السياسية والاجتماعية على نحو دائم أمام تحديات البحث الجاد والجريء في علل واسباب وعوامل الحروب الأهلية المقيمة فيه والمسؤوليات عنها. لأن ذلك هو المدخل الوحيد لعدم تجددها والشفاء منها، والشرط الذي لا بد منه لإعادة بناء أهلية صيرورته قولاً وفعلاً وطناً موحداً لجميع أبنائه.
من السهل إحالة المسؤولية حول أوضاع البلد، سابقاً وراهناً، على الآخر. سواء كان الآخر طرفاً داخلياً أو جهة خارجية. يستوي في ذلك القريب والبعيد بصرف النظر عن الاوصاف الملحقة به، إما لتبرير الإحالة عليه أو الاستقواء به، أو لتغطية الهروب من المسؤولية. وفي هذا المجال تبدو أسخف الشعارات في سجالات تلك القوى: ارفعوا أيديكم عن لبنان واتركوا اللبنانيين يتدبرون أمورهم. وكأن الخارج هو من أوقع بينهم، أو من تسبب بإنقساماتهم وتفككهم وخلافاتهم . وفي السياق عينه يكرر الجميع براءتهم من المسؤولية عن أزمات الداخل وعن تدخلات الخارج على السواء. رغم أن إيٌ من قواهم السياسية والاجتماعية يستحيل عليه إثبات براءته من الاستقواء بخارج ما، سعياً منه لتحقيق طموحاته الفئوية التي تظللها شتى الشعارات بما فيها استقلال البلد وسيادته وهو ما لم يتحقق. ولذلك فإن تجاهل وقائع ومعطيات الانقسام الأهلي وخلافات اللبنانيين يبقى أقرب الطرق لاستمرار دوامة الصراعات التي تشكل قيداً معطلاً للاستقلال الناجز ولتطور البلد وتقدمه في آن.
من المؤكد أن لبنان لن يستطيع راهناً، أن يستعيد استقلاله النسبي، ومعه حقه في الانتماء العربي الحر النزيه وحقه في التطور الديمقراطي، في ظل تكرار صيغ التملص من المسؤولية، على نحو متعمّد من سائر قواه السياسية والاجتماعية، سواء من هم في مواقع السلطة أو المعارضة الليبرالية واليسارية، من موجبات وتحديات تأهيل الوضع اللبناني الداخلي على نحو يمكن معه الحد تدريجياً من الاستغناء عن دول الخارج، الذي يمكن أن يشكل ملف لبنان احياناً أولوية بالنسبة لها أو بعض همومها، لأن أزماته ومشكلاته تتقاطع فيها استراتيجيتها الاقليمية ومصالحها الاقتصادية وحاجاتها السياسية.
لا شك في ان الانقسام ليس شأناً هيناً أو بسيطاً، وما الميل اللبناني لتبرئة النفس من المسؤولية عن حروب البلد الاهلية، سوى الوجه الآخر للهروب من موجبات خوض معركة السلم فيه. وهذا ما يحول دون اكتساب جدارة منع استمرارها وتجددها والقدرة على بناء حصانات الاستقرار وتيّسير مسيرة توحد اللبنانيين وانتظام حياتهم كمواطنين. ولذلك فإن الوقوف امام الواقع الراهن، هو وقوف امام المسؤولية اللبنانية بامتياز، ليس عن انعدام الاستقرار السياسي والدستوري التي قادت بلدهم إلى تكرار الفراغ الرئاسي والحكومي وشلل مؤسسات الدولة وأجهزتها، في موازاة الانهيار الاقتصادي والمالي وتصاعد حدة الانقسام الأهلي والدفع به إلى الاقامة المديدة في الفوضى التي تحكم وتتحكم بسائر شؤونه كياناً ونظاماً سياسياً ومجتمعاً أهليا وحسب. إنما أيضاً الحؤول دون الخروج من أحكام هذا الواقع وقيوده، والتسليم باستمراره ساحة مرتهنة للتدخلات الخارجية، ورهن مصيرها لنتائج الصراعات الاقليمية والدولية في المنطقة وعليها. وهذا ما يشكل مصدر قلقهم وخوفهم على حاضرهم ومستقبل أجيالهم.
لا شك أيضاً في أن بنية النظام الطائفي، ودوره في إعادة تشكيل بُنية الحياة السياسية بمختلف تشكيلاتها، هما انعكاس لبنية المجتمع اللبناني وما يحتشد فيه من انقسامات ونزاعات. وفي امتدادهما تقع صراعات المحاصصة الطائفية المستدامة والمفتوحة بلا حدود. وهي الصراعات التي تستهدف إعادة تحديد وانتاج صيغ التمثيل والصلاحيات والحصص، وتوزيع المواقع والمغانم بين الطوائف والمذاهب، وصولاً إلى تكريس المزيد من الصفاء بينها، على نحو يؤدي إلى تدمير ما تبقى من الممرات وقنوات التواصل بين الدولة والقوى السياسية الاهلية، أو المدنية التي تساهم في الابقاء على الحد الدنى من استقرار البلد. ما نتج عنه استحالة وجود صيغة مشاركة طائفية متوازنة في الحكم، بذريعة البحث عن عدالة طائفية مستحيلة، إما لتبرير الممارسات التعطيلية وإحالة المسؤولية عنها على الآخر، أو لتغطية جميع منوعات الفساد السياسي والإداري والمالي.
وفي مواجهة الوضع الراهن ليس مستغرباً التجديد للسياسات التعطيلية المعتمدة والمتعمدة التي تؤكد انعدام المسؤولية الوطنية لدى اصحابها، وسط اصرار منهم على الهروب من مسؤوليتهم. ولذلك ليس مفاجئاً أن تتصاعد حدة الصراعات الداخلية والممارسات التعطيلية من قبل مختلف اطراف السلطة تعبيراً عن مأزقها. سواء من يحدد مواصفات الرئيس الذي يشكل ضمانة له ولسلاحه فيما هو يدعي تحرير البلد وحمايته. أو من يتسول قبولاً فرنسياً أو وساطة خارجية مع اميركا لرفع العقوبات عنه، باعتباره المرشح الأقوى للرئاسة. وأن يتوسل سائر المرشحين واصحاب الطموح الرئاسي دعماً خارجيا اقليمياً أو دولياً، في موازاة تكرار المطالبة بمؤتمر دولي من قبل دُعاة السيادة والاستقلال. بينما يتجدد الارتباك والعجز في صفوف دُعاة المعارضة اليسارية والليبرالية ومعهم النواب المستقلين عن ايجاد الحد الادنى من صيغ التنسيق المجدي والذي يؤكد جدارة الانتساب للمعارضة من بوابة أزمة البلد المصيرية.
Leave a Comment