*خضر حسان
بأقل من 24 ساعة، انقلبت حياة الكثير من الجنوبيين رأساً على عقب. وبعد نحو عام على اندلاع الحرب على الحدود الجنوبية في تشرين الأول 2023، لم يكن سكّان بلدات قضاء صور ينتظرون الخروج من قراهم بشكل مفاجىء على وقع الصواريخ الإسرائيلية التي شكَّلَت أحزمة نارية حول قرى القضاء، دافعة الناس إلى الهروب مع ما تيسَّرَ حَمله من أغراضٍ ومستلزمات ضرورية.
بعض النازحين يعتاشون من إنتاجهم اليوميّ، على غرار أصحاب مزارع الأبقار وأصحاب محال بيع الخضار وكذلك مُصنِّعي الأجبان والألبان في المنازل، واليوم، أصيبوا بنكبتين، نكبة الخروج قسراً من قراهم ونكبة خسارتهم مورِد عيشهم. والأصعب، أن بعضهم لا يزال يسجِّل الخسائر وينتظر الأسوأ.
مزرعة الأبقار بخطر
لم يكن يوم الإثنين 23 أيلول يوماً عادياً في حياة سكّان قرى قضاء صور، ومنها أهل بلدة “معركة”، الذين اضطرّوا للخروج الفوريّ بعد استهداف البلدة وتصاعد حدّة الضربات في محيطها. وفي زحمة الخروج، اضطُرَّ موسى خليل للانتظار حتى يوم الجمعة ليرحل، إذ كان عليه “تأمين مكان آمن للأبقار”، وفق ما يؤكّده في حديث لـ”المدن”.
يملك خليل نحو 16 بقرة، وكان يبيع إنتاجه في محال وتعاونيات البلدة وجوارها. لكنه يعيش اليوم مع عائلته في مدينة طرابلس التي نزح إليها بعد “نقل الأبقار إلى مكان أكثر أماناً من المزرعة التي كانت على أطراف القرية”. وعليه، خسر خليل مصدر عيشه، ولا يستطيع الاستفادة ممّا تنتجه الأبقار حالياً، إذ “من غير الأخلاقي بيع الحليب لمَن تبقّى من الناس في القرية، بل يُوَزَّع مجاناً”.
الأبقار حالياً بأمان، لكن لا أحد يعرف ما يخبِّئه المستقبل. ويُحاول خليل تقليل حدّة توتّره وخوفه على مزرعته بالاعتماد على ثقته ببعض الشبّان الذين فَوَّضَهم الاهتمام بالأبقار، وهم من أصحاب الخبرة “لكن جوهر المشكلة في مكان آخر، وهو تراجع القدرة على تأمين الأعلاف، الأمر الذي أدّى إلى خفض الكميات التي يتم إطعامها للأبقار التي يقتصر أكلها حالياً على التبن، ما أدّى إلى تراجع إنتاجها من نحو 30 ليتراً من الحليب لكل بقرة إلى نحو 5 ليترات، فضلاً عن ضعف البنية الجسدية”.
تدحرجت انعكاسات الحرب على المزرعة وإنتاجها. فبدأ خليل بتوزيع كميات من الحليب واللبن مجاناً على الناس “قبل نحو أسبوع من تصاعد حدّة القصف”، وصولاً إلى توزيعها بالكامل مع قصف أوّل منزل في القرية وخروج العدد الأكبر من أبنائها.
ورغم حاجته المادية، فإن جلّ ما يتمناه خليل هو “بقاء الأبقار على قيد الحياة. وهذا أمر يزداد صعوبة كلّما طالت فترة الحرب، ففي النهاية قد لا نجد شيئاً لتأكله الأبقار، وليس هناك إمكانية لمعالجتها في حال المرض”. والحلّ الوحيد أمام خليل في حال زاد الخطر، هو “نقل الأبقار خارج الجنوب، وهو أمر صعب جداً ومكلف، نظراً للحاجة لإيجاد مكان مناسب”.
خسارة إنتاج أربعة أيام
توقُّف بيع الحليب من المصدر انعكس على إنتاج الألبان والأجبان. وهو ما واجهته فريال حجازي التي تصنع الألبان والأجبان ضمن مشروع منزلي طوَّرَته بنفسها. فمع اشتداد حدّة القصف، اضطرّت حجازي للخروج من القرية. وقبل ذلك وزَّعَت مجاناً ما في برّاداتها من حليب ولبن وجبنة وقريشة، وهي عبارة عن جبنة لم يجرِ سحب المياه منها بشكل كامل، وتُباع كالقشطة.
وتروي حجازي لـ”المدن” أنه في صباح يوم الإثنين المشؤوم، كانت قد جَمَعَت إنتاج نحو 5 أيام من تصنيع اللبن والجبنة والقريشة. ومع استهداف القرية، كان قرار توزيع الإنتاج على الناس “قراراً طبيعياً، إذ يستحيل تخزين الألبان والأجبان لمدة طويلة حتى لو كانت في البرّاد، فلا نعلم المدة التي سنقضيها خارج القرية قبل العودة”.
مادياً “الخسارة كبيرة جداً. فيومياً نشتري نحو 400 ليتر من الحليب. لكن ما وصلنا إليه اليوم يجعلنا نفكِّر بأماننا الشخصي وسلامة عائلاتنا رغم أسفنا على الخسارة المادية التي يمكن تعويضها لاحقاً”. ورغم محاولتها التخفيف من آثار الخسارة المادية، إلاّ أن الأثر النفسي يبدو جلياً في كلامها. فتشير حجازي إلى أنها تكاد تصاب بالجنون كلّما تذكَّرَت مشهد خسارتها “لكن أرتاح عندما أرى أولادي بأمان جانبي، فهذا هو المهم حالياً”.
المحلّ مفتوح للجميع
ظَنَّ الشاب حسين سلمان أنّ يومه سيكون مشابهاً للأيام السابقة. فرحلته من “حسبة” صور إلى محلّ الخضار والفواكه في بلدة معركة لم تكن استثنائية بل جرت على عادتها اليومية وبـ”فاتورة بلغت نحو 120 مليون ليرة” امتلأ المحلّ، وبدأَ البيع.
ساعات الصباح الأولى لم تكن عادية، فانطلقت صواريخ الاحتلال الإسرائيلي وبدأت تقترب من أطراف البلدة. اختار حسين عدم المغادرة، وبقي في القرية “لمدة يومين”، باع خلالهما “بنحو 8 ملايين ليرة”، وكان قرار الخروج مع عائلته. ويؤكِّد في حديث لـ”المدن”، أن البضاعة الموجودة في المحلّ “كانت معروضة أمام الناس مجاناً، خصوصاً بعد قرار المغادرة”. ولا مجال هنا للحديث عن الخسائر المادية “فالخسارة كبيرة، إذ تُضاف كميات الخضار والفاكهة التي كانت موجودة مسبقاً في المحل، إلى خسارة فاتورة يوم الإثنين”.
يوم الأربعاء 25 أيلول، خَرَجَ حسين من البلدة باتجاه مدينة طرابلس، استأجَرَ منزلاً وبدأت رحلة استنزاف ما في جيبه من أموال شحيحة في الأصل، تاركاً محلاًّ يعجّ ببضاعة فسد ما لم يُوَزَّع منها، وتاركاً خسارة مالية لن تُعَوَّض إلاّ معنوياً عن طريق العودة إلى القرية بعد وقف الحرب.
التعويض المعنوي يلعب دوراً في التخفيف من آثار الخسارة المادية لأشخاص يعانون منذ ما قبل الحرب، بفعل آثار الانهيار الاقتصادي. لكن رغم العزاء المعنوي، لا يمكن التقليل من نتائج الخسائر المادية التي تستمرّ طيلة فترة النزوح، إذ يبقى النازحون بلا عمل وبلا قدرة على العودة إلى قراهم واستعادة نشاطهم الاقتصادي.
*نشرت في المدن الالكترونية يوم الجمعة 2024/10/04
Leave a Comment