ثقافة صحف وآراء

مركز “تكوين” وتنويره غير منزوع المخاطر

*شادي لويس

من شأن الجدالات أن تكرر نفسها حين تكون دائرة السياسة مغلقة، لهذا يعيد الصخب حول حفلة تدشين مركز “تكوين الفكر العربي” في القاهرة نقاشات استهلكت نفسها قبل عقدين على الأقل. ليست السياسة وحدها المعطوبة، فالثقافة اختُزلت في لوائح الروايات واللهاث وراء مواسم جوائزها، بينما تقوم فورات مواقع التواصل الاجتماعي بتوجيه دفة الانخراط الجماهيري على إيقاع جَزر الخوارزميات ومَدّها. لذا، فإن ما أصبح مركز الاهتمام بخصوص تدشين مشروع “تنويري” هو زجاجة بيرة نصف ممتلئة ظهرت في خلفية إحدى صور افتتاح المركز. استدعى الأمر تعليقاً وتهجماً من ابن رئيس جمهورية أسبق، هو علاء مبارك، وتغطيات من وسائل الإعلام العالمية، وتبعها تبرؤ من قبل المشاركين في تدشين المركز، وعلى رأسهم الأكثر هشاشة، إذ أدلت الكاتبة فاطمة ناعوت ببيان صحافي لتنفي أن يكون أحد من المشاركين قد تناول المشروبات الكحولية.

في الجهة الأخرى، جاءت وسوم “أغلقوا مركز تكوين” في الشبكات الرقمية، مقرونة بدعوات لتقديم مؤسسيه للمحاكمة وأحياناً تحريضات مباشرة ضدهم، وصلت إلى تهديدات علنية بالقتل. المواقف الجدلية السابقة لإبراهيم عيسى وإسلام البحيري ويوسف زيدان -وهي الشخصيات التي تصدرت مشهد تدشين المركز- كانت كفيلة باستدعاء حملة الكراهية تلك، وكذا وصم المركز بالعداء للدين. إشاعات حول تمويل المركز من قبل الإمارات، منحت الجدل أبعاداً إضافية تتعلق بالتوازنات السياسية في الإقليم ومراكز القوى الصاعدة. على تلك الخلفية، يكشف المحتجون ضد المركز عن شعور بهشاشتَين: هشاشة الديني، ومن جهة أخرى هشاشة وطنية أمام فوائض الرأسماليات النفطية المصرّفة سياسياً.

والحال أن ثمة ما يحفز تعميق الشعور بكلا الهشاشتَين هذه الأيام على وجه التحديد. المذبحة الدائرة في الجوار يمكن تلبيسها أبعاداً عقائدية ممزوجة بمظلومية دينية تصعب مقاومة غوايتها، ومن ناحية أخرى فإن معادلة مبادلة السيادة الوطنية بالديون غدت سياسة رسمية، بل ويُحتفي بها. العجز أمام مشهد الخراب المتفجر في الداخل، والظلم الفادح على الحدود، يمكن تفريغه بيُسر عبر الشخصنة وتكثيف الكراهية وطاقات الغضب المكبوت نحو وجوه “الشر” المألوفة.

المقاربة الثقافوية التي ينتهجها رواد “تكوين” معقمة سياسياً، وعلى الأغلب عن عمد، فمسألة “التقدّم” و”التخلف” لا تستدعي إشارة لنظام الحكم أو مؤسسات الدولة ولا النخب الحاكمة ولا الطبقات، وتظل محصورة في النبش في التراث وتقليمه وفي إلقاء اللوم على “العقل العربي” وثقافة المجتمعات وكذا في تدوير شعارات تجديد الخطاب الديني بلا كلل.

لا يعني هذا بالضرورة أن ذلك النقد الموجة إلى الأسفل، نحو الجماهير المقموعة أو الماضي أو كيانات اعتبارية غير محدّدة وفضفاضة، هو فعل منزوع المخاطر، مُعفى من بطش السلطة العشوائي. فالإعلامي إسلام البحيري، على سبيل المثال، نفذ حكماً بالسجن بتهمة ازدراء الأديان. وناعوت هي الأخرى حُكم عليها بالسجن ثلاثة أعوام بتهمة ازدراء الأديان، قبل أن يُخفّف الحكم إلى ستة أشهر مع إيقاف التنفيذ. أما زيدان فكان الوحيد الذي واجه قضية ازدراء أديان مرفوعة من قبل الكنيسة القبطية. هذا عدا حملات التعريض والاستهداف في العالم الرقمي التي استهدفتهم جميعهم مع غيرهم.

تهمة موالاة السلطة الحاكمة وتسويغ استبدادها، ولو ضمناً، قد تطاول بعض رواد المركز، وقد تكون بلا مسوغات حين يتعلق الأمر ببعضهم الآخر. لكن، في المحصلة النهائية، تظل الضوضاء المثارة حول التنويريين الجدد، مجرد عروض جانبية على خشبة خالية من السياسة والثقافة معاً، عروض بعضها يشبه مهرجانات الملابس التنكرية، حين ترتدي ناعوت مرة الزي الفرعوني ومرة أخرى تخرج إلى الجمهور بالزي العسكري دعماً للجيش. إنما ما يثير الفزع بشأن تلك العروض هو حملات التحريض التي تواكبها مؤخراً.

*نشرت في المدن الالكترونية يوم السبت 2024/05/11

Leave a Comment