محمد السيد إسماعيل *
“أنقذونا من هذا الحب القاسي”، كانت هذه صرخة محمود درويش المبكرة التي أطلقها عام 1969، رداً على تمجيد كل ما هو فلسطيني، وكأنه رد فعل إزاء الهزيمة العربية عام 1967. وهو ما رآه درويش “حباً قاسياً” يحجب الرؤية الموضوعية للذات الفلسطينية والعربية، ولأنه – وهذا هو الأهم – كان يريد أن يعامل بوصفه شاعراً لا صوتاً لقضية يتبناها الجميع، بعد أن كرس الناقد المصري رجاء النقاش صوته شاعراً ومناضلاً في كتابه “محمود درويش… شاعر الأرض المحتلة”. وفي هذا السياق يمكن أن نفسر خروجه من الأرض المحتلة، على رغم علمه بما سوف يسببه ذلك من انتقادات، لأنه لم يشأ أن يظل أسير قيدين: قيد القهر اليومي المباشر في “الداخل”، وقيد الحب القاسي من “الخارج”، لأنهما معاً، يفرضان أن يظل أسير تلك المعادلة “الفعل – رد الفعل”، التي يتولى العدو تكريس طرفها الأول (الفعل/ القهر) ويتولى المشايعون للقضية تكريس طرفها الثاني (رد الفعل / المقاومة)، بالمواصفات التي يعتقدون في أهميتها.
ولعل ذلك ما يفسر الفتور الذي استقبل به ديوان “آخر الليل” لخروجه فنياً عن المواصفات المعهودة لطرف المعادلة الثاني، متناسين أن هذا الديوان قد صدر في عام النكسة التي لم تترك أثرها على صوت درويش وحده بل على العالم العربي كله، وفي كافة خطاباته الشعرية والفكرية والسياسية. على أن إنجاز درويش الكبير يتمثل في وفائه لشروط الشعر الجمالية والالتزام – في الوقت نفسه – بقضايا شعبه، وهو ما عصمه من أمرين: الشكلانية المجانية المفتعلة، والصوت الصارخ التبشيري المباشر. وبهذا الاعتبار فإننا نرفض ما قاله أحد النقاد البريطانيين في رثائه “إنه بدأ شاعراً كلاسيكياً ثم تحول إلى شاعر شعبي”. فدرويش كان في قلب حداثة شعر التفعيلة كما أنه لم يكن شاعراً شعبياً بالمعنى التبسيطي الذي يقصده الناقد البريطاني.
صوت الفرد وصوت الجماعة
نستطيع أن نفهم صفة “الشاعر الشعبي” هنا، بمعنى أنه كان يمثل صوت الجماعة وهي الشعب الفلسطيني بل الأمة العربية التي سعى أن يكون صوت ضميرها، مع ملاحظة هامة أن ذلك لم يمح خصائص صوته الفردي وخصوصية رؤيته. هذا الجمع بين صوت الفرد وصوت الجماعة والجدل الدائم بينهما هو ما أنقذ قصيدته من غنائيتها وأدخلها في إطار القصيدة الدرامية. ونجد تداخلاً بين اليومي والأسطوري ويظهر ذلك في قصيدة “أحمد الزعتر” هذه الشخصية المتخيلة التي يظهر بعدها اليومي العادي في قوله “يا أحمد اليومي/ يا اسم الباحثين عن الندى وبساطة الأسماء/ يا اسم البرتقالة/ يا أحمد العادي”. وهو في الوقت نفسه أحمد الأسطوري الكوني: “لم تأت أغنيتي لترسم أحمد المحروق بالأزرق/ هو أحمد الكوني في هذا الصفيح الضيق المتمزق الحالم”. وفي مقطع آخر يتوحد مع الطبيعة: “لا تسرقوه من السنونو/ لا تأخذوه من الندى”.
ويتخذ صورة المسيح: “لا تسرقوه من الأبد/ وتبعثروه على الصليب/ فهو الخريطة والجسد”. وهكذا يتداخل اليومي والأسطوري والديني والطبيعي، كما يتداخل السردي والغنائي، وهو ما ذكرته اعتدال عثمان في قراءتها لقصيدة “الأرض” حين لاحظت أن المقاطع ذات الأرقام الهندية هي مقاطع سردية تعتمد على نمو الحدث المروي مع الحرص على خفاء الإيقاع، أما المقاطع ذات الأرقام العربية فتظهر فيها الغنائية الأسيانة العذبة والحس الموسيقي العالي وجرس القافية الموحدة. وفي قصائد أخرى تظهر الموسيقى الداخلية من خلال التماثل الصوتي والصرفي والتركيبي حين يقول: “الكمنجات تبكي على الغجر الذاهبين إلى الأندلس/ الكمنجات تبكي على العرب الخارجين من الأندلس”. وهنا تتكرر دوال: الكمنجات، تبكي، الأندلس، إضافة إلى التقارب الصوتي بين الذاهبين والخارجين على رغم ما بينهما من تقابل.
الهمس والغضب
لا أظن أن درويش كان يرد علة محمد مندور الذي نادى بما أسماه بالشعر المهموس، الخافت النبرة، الحميمي، حين كان درويش ينحو منحى آخر يبتعد عن هذا الهمس، فهو يريد صوته عالياً غاضباً حين يقول في ما يشبه البيان الشعري: “يا قارئي/ لا ترج مني الهمس/ لا ترج الطرب/ هذا عذابي/ ضربة في الرمل طائشة وأخرى في السحب/ حسبي بأني غاضب/ والنار أولها غضب”. إنه شاعر العذاب الفلسطيني والإنساني، وصاحب الضربات غير المحسوبة في الرمل والسحب، وشاعر الغضب الذي يجلب النار التي تشبه نار برومثيوس. ولهذا يرفض التحليق والتعالي على الواقع، ويقول نثراً تأكيداً لتشبثه بالأرض: “أنا لا أكون إلا فوق الأرض، وكل وجود لي خارجها إنما هو ضياع وتيه، لتكن الأرض داخلي تكتبني وأكتبها”. وفي سياق تشبثه بالأرض يأتي تعلقه بالأب يقول في “أبي”: “غض طرفاً عن القمر/ وانحنى يحضن التراب/ وصلى/ لسماء بلا مطر/ ونهاني عن السفر”. ويبدو أن درويش يجسد صورة جديدة من هذا الأب الذي يغض طرفه عن القمر وينحني يحضن التراب، تماماً كما يفعل شاعرنا في تشبثه بالأرض وحلمه بمستقبلها المغاير كما يبدو في قوله: “ما دمت أحلم فأنا حي لأن الموتى لا يحلمون”.
رؤية الذات الفلسطينية
وقع العرب قبل النكسة في أوهام تمجيد الذات، وبعد النكسة بدأوا في “جلد الذات” وتجريحها، ولم ينقذ الموقف إلا رؤية بعض المفكرين والشعراء للذات بموضوعية تنأى عن “التهويل والتهوين” أو “التمجيد والتبديد”. وكان درويش من أهم من عرى آفات التمزق والاقتتال الفلسطيني على نحو ما يظهر في قصيدة “يعانق قاتله” حين يقول: “أخي يا أخي ما صنعت لتغتالني؟”، أو: “ماذا تقول؟/ ستقتلني كي يعود العدو إلى بيته/ بيتنا/ وتعود إلى لعبة الكهف”. ويستدعي “يوسف” وما فعله به إخوته في قصيدة “أنا يوسف يا أبي”، فيقول “أنا يوسف يا أبي/ يا أبي/ إخوتي لا يحبونني/ لا يريدونني بينهم يا أبي/ يعتدون علي ويرمونني بالحصى والكلام”.
تعد هذه إحدى المقولات الرائجة التي صدقها بعض الشعراء الفلسطينيين، والحقيقة أن مثل هذا الكلام غير صحيح وقد قيل أيضاً، عن نجيب محفوظ في مجال الرواية، وقيل عن يوسف إدريس في مجال القصة القصيرة، وهي مقولات تجافي الحقيقة، وآية ذلك بالنسبة إلى درويش، ما كتبته الناقدة فريال جبوري غزول عن الأصوات الشعرية الفلسطينية الجديدة في دراستها المهمة “لغة الضد الجميل في شعر الثمانينيات: النموذج الفلسطيني”. ومع ذلك ظلت هذه الفوبيا تلاحق بعض الشعراء المهمين مثل زكريا محمد الذي ظل يردد، كما تقول الشاعرة المصرية إسراء النمر، أنه ليس خليفة لمحمود درويش، بل إن أحدهم، عارف الساعدي، حمد الله على رحيل درويش معللاً ذلك بأنهم يستطيعون بعد هذا الرحيل، الحديث عن أنفسهم كشعراء، “فبوجوده كان من الصعب أن تطل هذه الكلمة علينا”. هذه بالفعل مبالغات لا سند لها، فلم يكن درويش وجيله كله، فوق مستوى النقد، فقد أخرجهم أدونيس من شعر الحداثة، وذكر غالي شكري أنهم يعتصمون بالغنائية والقيم الماضوية مثل الدين والقومية. وهي أحكام سبق الرد عليها فى هذا المقال، فدرويش تحديداً، تجاوز النزعة الغنائية ومزج بينها كما أوضحنا، وبين الدرامية والسردية والملحمية، كما لم يكن عنده ذلك التعصب الديني والقومي. بل ظهر في شعره العديد من الروافد المستعارة من أديان مختلفة.
*نشرت في اندبندنت العربية يوم الجمعة 11 آب / أغسطس 2023
Leave a Comment