محسن إبراهيم

محسن ابراهيم محتفظاً بنفْسه ونَفَسِه

جهاد الزين*

انكفأ محسن ابراهيم عن المسرح السياسي بعد نهاية العام 1982، ولكن انكفاءه تحوّل إلى تقاعد سياسي. وحده كان يعلم الفارق بين انكفائه وتقاعده. ليست المسألة أنه فهم أن دوره بالمعنى الذي كان عليه كلياً بين العامَين 1975 و 1982وجزئياً بين العامين 1970 و1975قد انتهى، فكثيرون فهموا ذلك، ولكنه هو الذي كان يدرك مبكراً في تلك السنوات من الثمانينات، أن أي دور جديد ومختلف لم يعد ممكناً. فحجم المتغيرات كان جذريا وطبيعة القوى التي وُلِدت بعد الاجتياح الإسرائيلي أو التي “احتلّت” الساحة السياسية المحلية هي قوى من خارج الإرث الذي نشأ محسن ابراهيم فيه و”ترعرع” عليه. لم تكن هذه القوى فقط خارج “عائلته” الفكرية السياسية، بل خارج “عائلة” لغته السياسية والفكرية. أتخيّله لو سمع مني هذه الصياغة لغربته السياسية (أو ربما أكون أنا الذي سمعتها منه و نسيت!)كانت عيناه ستتسعان في ضحكة استيعابية من تلك الضحكات التي تشجّعك على ما قلت، ولكنها تذهب بك أكثر مما قلتَ فتجد نفسك وقد أصبحت الفكرة أداةً لما يريد هو أن يقول.

كان يتردّد على جريدة “السفير” خلال تلك السنوات بعد 1982 حيث كنت أعمل. وكانت جلساتنا معه، بعض الزملاء وأنا، عدا أُنْسِها الطافح، اختباراً مباشراً لنباهتنا كصحافيين يريدون أن يتكيّفوا مع الوقائع المتوحشة الجديدة في السياسة اللبنانية، فكيف إذا كانوا يريدون مواجهتها. وأسأل نفسي اليوم، وأعتذر من رفاقه على ذلك، من أين كانت هذه الحالة المهزومة حركياً وسياسياً مرتين 1967 و1982، التي اسمها محسن ابراهيم، تضخ فينا كل هذه المعنويات؟!

لعلني أجد بعض الجواب اليوم في أن الرجل رغم مرارة موقعه الفلسطيني وتماهيه التام معه، كان يعرف نقاط ضعف الأوضاع العربية وخصوصا اللبنانية، فكانت ملاحظاته سنداً يساهم في فهم الضعفاء للأقوياء، أو المعتبَرين أقوياء يومها من جهة، ومن جهة ثانية في تجنّب المزيد من تنكيل الأقوياء بالضعفاء داخل النخب المعنية بالصراع السياسي. لكن السر مع ذلك يبقى في “مكان” آخر. إنه شخصيته القيادية وذكاؤه المستندان إلى قاعدة التزام راسخة في وجدانه وليس فقط في علاقاته: تبنّيه الكامل لحق الحركة الوطنية الفلسطينية في الصراع مع إسرائيل. غير أنه كان يختزن ما لم يكن ممكناً أن نلمسه تماما بسبب طابعه السري، وهو دوره في إطلاق المقاومة الوطنية للاحتلال الإسرائيلي.

باختصار: لقد عرف محسن ابراهيم كيف يخسر لبنانياً. ربما تقاعد بشكل مبكر، ولكن ذلك كان أفضل له من أن يبحث عن دور فلا يجده، ولا يستطيع أن يجده. فجنّب نفسه الوقوع في المهزلة التي وقع فيها آخرون. وبهذا ظلّ صوته محترماً وقادراً على استقطاب الاحترام من غياهب الانكفاء الذي أراده، ولكنه احتفظ مع مجموعة من رفاقه بالتنظيم السياسي الذي صار معه ولو مجرد شاهد، صوتاً ذا معنى، على مسار الوقائع ونتمنى له، بعد محسن ابراهيم، أياماً أفضل.

التقيتُ به المرة الأخيرة بينما كان خارجا من مسجد مقبرة الشهداء بعد تشييع المرحوم منح الصلح. كانت علائم السن المتقدم قد ظهرت عليه (كما ظهرت علينا جميعاً!). بادرني أبو خالد يومها بملاحظة حول الوضع المحلي كأنه ما زال في كامل انخراطه في العمل السياسي. وكان يفعل ذلك كلما التقينا في واحدة من المصادفات التي صارت تحكم وحدها هذه اللقاءات النادرة. كنتُ أفهم ذلك وأقول اتفهمّه…. فكيف لشخص مثل محسن ابراهيم أن يستقيل من وعيه الحاد والناضج طبعا بالأحداث؟!

في جيلنا، محسن ابراهيم، وهو من جيل آخر، كان صوتاً وصدى. صوت من عالم عربي ينتقل إلى تحديات شاقة، وصدى ثقافة بلغت أوجها مع جيله حَمَلْنا نحن، أي جيلنا، نتائجَها من موقع الشراكة الثقافية والسياسية.

كانت نكتته الشهيرة التي أطلقها في ذروة دوره كأمين عام تنفيذي لـ “الحركة الوطنية” (وفعليا كدينامو لهذه الحركة منذ أيام كمال جنبلاط)، وبعده كسياسي بارع في إدارة تناقضات الصف الواحد… كانت نكتته إذن عن الصورة الفوتوغرافية “التي تبدو فيها الجماهير مشاراً إليها بسهم”، تحمل فهما عميقاً واستشرافا في آنٍ معاً: فَهْمُ محدودية النخبوية اليسارية على المستوى الشعبي، واستشرافٌ مبكر لحركات شعبية ستحمل غرائزها الانتمائية إلى المسرح السياسي وتسيطر عليه لاحقاً باسم دين جماهيري، وهو دائما جماهيري على أي ضفة ظهر في الحرب الأهلية، فكيف إذا كان مستنداً إلى شعور ذاتي لدى الجماعة بفاجعة ما.

وهذا غيض من فيض أعرفه. وأكثر منه لا أعرفه، لأنني لست الشخص القادر على تأريخه وهناك من كانوا أقرب مني بكثير بكثير له خصوصاً من رفاقه السابقين والحاليين. فأنا عدا تجربة عابرة وسريعة كـ “صديق للمنظمة” أيام الجامعة في بعض النصف الأول من السبعينيات لن أتعرّف عليه سوى لاحقا عندما دخلتُ بشكل كامل ميدان الاحتراف الصحافي.

أرجو أن تكون مذكراته، بصورة من الصور، أو بصيغة من الصيغ، موجودة، فهذه تجربة مهمة لا يصح أن يحيط بها الصمت ولا الشفاهة فقط. تجربة تمتد ساحاتها من اليمن إلى القاهرة ومن بيروت إلى بيروت بالمعنى الذي ينكتب فيه جزء من التاريخ التفاعلي والنضالي لعاصمة امتدت ذات يوم، ولو بثمن باهظ من فلسطين إلى فلسطين.

“يا أهل لبنان الوداعا” قالها محمود درويش يومها في قصيدته ” مديح الظل العالي”، ولكن لم يكن يقصد فئة من أمثال محسن ابراهيم بقيت فلسطين فيهم، فلم تتمكن من مغادرتهم… ولم يتمكّنوا من مغادرتها … حيث رحلت.

*كاتب وباحث سياسي لبناني

Leave a Comment