حسن فحص*
ليس عبثاً أو استقالة من المسؤولية والهم العام أن اختيار محسن ابراهيم في آخر سنوات عمره الاعتصام بالصمت. صمت لم يلذ به لأن اللوذ من فعل الضعفاء والجبناء والعاجزين، وهو لم يكن واحداً من هؤلاء، كان صمته أكثر بلاغة وأعلى صوتاً من كل العازفين على أوتار وجع الناس وقضاياهم، وكل الممسكين بتلابيب الوطن أو الاوطان يصرخون به وبها دفاعاً عن حصصهم وما يفيء لهم وعليهم من مصالح.
لا تحتاج الكثير من الوقت والعناء والجهد لكي تلتقي معه في ما يهمه ويشغله، فالمساحات المشتركة بينه وبين أي واحد تتنوع وتتعدد، لكنها تبقى مجتمعة فيه كلها، من فلسطين والطموح إلى وطن، إلى الفقراء، والانسان عامة. واذا ما استغلق على أحد الفهم أو وجد صعوبة في الوصول إليه والتواصل معه، عليه أن يعيد النظر في منطلقاته وأداواته وصوابية مدخلاته المعرفية والانسانية، خاصة اذا كان الانسان والهم الانساني هو المشترك الأوسع بما هو وطن، ونزوع نحو الحرية والدفاع عن حق ما في مكان ما، على اختلاف أدوات المقاربة.
هكذا هو، وهكذا كان، مقامر لا يشق له غبار. لم يكن يبالي اذا ما خسر جولة، لأنه كان يرى في الخسارة مقدمة لجولة مقامرة أخرى. ومقامرته المستمرة ليست إدماناً على الخسارة كما هو فعل بعض السياسيين، بل كانت كدحاً بكل ما فيه من أثقال سياسية ومعرفية واجتماعية وانسانية، بانتظار لحظة تاريخية تعيد تصويب المسارات، ورهاناً على ربح كبير لا بد سيأتي.
من الصعب أن تستذكره فقط في تداعيات الحدث الفلسطيني المتحرك والمتجدد، فهو هناك منذ البداية لم يغادر، ومن هناك أتى إلى لبنان وهمومه. من الهم الفلسطيني تجول في أزقة النبعة وأحياء الفقراء، واستقر في الحركة الوطنية بما هي هم واصل وواصب نحو حق طمسته مطامع الآخرين. لكنه كان دائم القدرة على إعادة تجويد مواقفه من الآخر خوف التعنت والتباس اللحظة وتضييع الفرصة في توسيط الأمور من أجل بناء أفضل وأكثر قدرة على الحياة، يكون فيه التلاقي مع الآخر على المشترك الوطني والانساني عماد الربح الذي يسعى وراءه. فقد كان مشروعاً مفتوحاً على المستجد في نظام المعرفة وأدوات التحليل والمشروع السياسي أو الاجتماعي والفكري منذ بداية تشكل وعيه النقدي والقراءة النسبية للنصوص المغلقة، سواء كانت دينية أو مادية بعيداً عن تعطيل النقد أو مصادر الحق فيه بذريعة شمولية ما تمنع التعرض للثابت وتجلياته التي تأخذ طابع القداسة، وتحجب المتغير وأدوات انتاج الوعي المشترك مع المختلف أو المخالف.
لم تكن تحولات محسن ابراهيم السياسية بعيدة عن، أو جاءت من خارج سياق تراكم التجارب، بل كانت نتيجة حصيلة حقائق قادته إلى الاعتدال والوسطية والتسووية، بما تمثله هذه المحددات من رؤية موضوعية للحقائق والوقائع والمؤشرات التي كان يلتقطها مبكراً وكأنه السباق إليها، وكمدخل لمشروع وطني تأخر انجازه، وما يستدعيه ذلك من نقد التجربة التي كان مؤثرا فيها كشرط لإعادة تأسيس فهم جديد لكل القضايا الانسانية العربية واللبنانية والفلسطينية، ولا شرط عليها سوى المراجعة الجدية والمصارحة والمصالحة والديمقراطية.
من هنا ومن محاولة فهم هذه التحولات، يمكن ادراك سر العلاقة التي ربطت بين محسن ابراهيم والزعيم الراحل ياسر عرفات على النصاب الفلسطيني، والعلاقة مع الزعيم كمال جنبلاط، فما جمعه معهما، وما جمعهما معه، أنهم كانوا يقرأون التاريخ في الجغرافيا، والمواطن بالوطن والأرض بأهلها. وكما قرأ ابو عمار الوحدة الفلسطينية في تعدديتها، أو التعددية الفلسطينية في وحدتها، كذلك قرأ محسن ابراهيم وكمال جنبلاط تعدد لبنان ووحدته في الجماعات والحساسيات التي تعطي للبنان هذا المعنى والدور والميزة. على أن انحيازه لفلسطين والفلسطينيين من خارج السياق الذي شكّل مكوناته المعرفية المركبة، ما جعله يطل على الحقائق المختلفة على نصاب فلسطين الجامع، من دون تنصل من وظيفته الوطنية التي وجدت ترجمتها من خلال دوره في الحركة الوطنية، ولاحقاً في تأكيد هذا التوازن في خيارات المصلحة اللبنانية والخيارات الوطنية الفلسطينية، بحيث بقي اميناً لتاريخه النضالي مع هذه القضية ومناصر لهموم شعبها، من دون أن يكون على تعارض في ذلك مع الهم الوطني اللبناني والسعي الدائم لبناء دولة جامعة تملك قرارها وتعيد التوزان في العلاقة بين مكوناتها الطائفية والسياسية.
قد يكون محسن ابراهيم في السنوات الأخيرة من عمره السياسي النضالي قد تعرض لانتقادات صريحة ومباشرة من الجماعة السياسية التي ينتمي لها والتي اسسها وقادها لعقود، نتيجة اعتراضهم على ما آل اليه دور منظمة العمل وخروجها من دائرة التأثير السياسي المباشر على الساحة الوطنية، الا أن ما يمكن الاتفاق عليه هو أن الصمت الذي اعتصم به السيد محسن كان أكثر بلاغة من أي فعل أو كلام سياسي قد يلجأ له قادة سياسيون في تسويغ أنماط العلاقة التي تفرض عليهم التعامل ببراغماتية مع السائد الميهمن يميناً ويساراً، علمانياً ودينياً، اشتراكياً ورأسمالياً.
* كاتب وصحافي لبناني
Leave a Comment