محسن إبراهيم

محسن ابراهيم الذي لم يعتذر

منى سكرية*

بتاريخ 18/2/ 1988 تناقلت وكالات الأنباء العالمية  نبأ اغتيال ثلاثة من المناضلين الفلسطينيين في جزيرة قبرص، وهم:  حمدي(محمد سلطان التميمي) وأبو حسن (محمد أبحيص) ومروان كيالي. وكانوا من البارزين في انتفاضة الحجارة العام 1987.. وكانت عائلة كيالي التي تعيش في لبنان ترغب بنقل جثمان إبنها الشهيد ودفنه في بيروت.. أذكر أنه وخلال إجراءات  تأمين نقل الجثمان في ذاك المساء الممتد لساعات طويلة من ليل العمل في صحيفة “السفير” حيث كنت أعمل، أن الزميل وليد شقير كان منهمكاً في ترتيب إجراءات وصول جثمان كيالي بما يحول دون أية عوائق، وذلك من خلال تولّيه الاتصالات مع المسؤولين الأمنيين السوريين في بيروت من جهة، ومع “أبو خالد” محسن ابراهيم من جهة ثانية، لتعذر التواصل المباشر بين ابراهيم والجانب السوري يومها.. يومها، كانت بيروت تنفض غبار الانتهاك اليومي لكرامتها  بفعل تقاتل “أبناء الخندق الواحد” لا سيما بين حركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي ودخول الحزب الشيوعي على الخط، إضافة إلى طوابير خامسة، وحيث كان لدخول الجيش العربي السوري للإنقاذ ثانية إلى لبنان بعد دخوله الأول العام 1976 محل تأييد  واهتمام  سياسي وإعلامي امتد لعقود..

 وعليه، كنت – وكما باقي الزملاء المتفاعلين بغضب لنبأ الإغتيال، ونقل الجثمان- نتابع حركة إتصالات الزميل شقير وقدرته على الصمت الدال على احترام الذات، وأقول في نفسي كيف له أن يتحدث بهذه السهولة مع الأستاذ محسن ابراهيم..

**********

لم أكن قد التقيت محسن ابراهيم في أي لقاء صحفي وجهاً لوجه إلى ذاك الحين..ولكن وبالتاكيد كنت أعرف عنه، وعن “وهج” حضوره وتاريخه النضالي، وفلسطين في قلبها.

تسارعت الأحداث على الصعيد الفلسطيني بشكل خاص، وكانت جزءاً أساسياً من مادة اهتماماتي ومتابعاتي المهنية..

وبتاريخ 22/4/1993 كنت أتابع تغطية الجلسة التاسعة  لاجتماعات وزراء خارجية دول الطوق العرب (تأسست بعد مؤتمر مدريد للسلام العام 1991 وضمت وفود لبنان، سوريا، فلسطين(م.ت.ف)،الأردن، وحضور مصر) المنعقدة  في دمشق.. وقد  شكّل يومها حضور رئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية فاروق القدومي إلى دمشق الخبر الأول، لأنه أتى بعد سنوات من الانقطاع بين القيادة الفلسطينية ورئيسها أبو عمار والقيادة السورية ورئيسها حافظ الأسد، بسبب حروب المخيمات في لبنان وتقاتلهما في مدينة طرابلس شمال لبنان إلى إلى…

في فندق شيراتون دمشق يومها وكنت أريد الحصول على سبق صحافي بإجراء مقابلة مع القدومي لأهمية “المصالحة”، فلم يكن سوى الاستاذ محسن ابراهيم سنداً لي في تسهيل المهمة، لا بل اعتباره عملي جزءاً من تلميع “المصالحة” ..تلك “المصالحة” التي تتوجت بوصول “أبو عمار إلى دمشق ولقائه الرئيس الراحل حافظ الأسد في اللاذقية.. هذا اللقاء الذي سبق توقيع اتفاقية أوسلو بأشهر قليلة.

كان أبو خالد يشعّ دينامية، و”فرحاً” بالمصالحة الفلسطينية-السورية، خاصة وأنه قد استبق تصالحه مع القيادة السورية بزيارة نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام قبل سنوات من ذاك العام…ولأن واحدة من مزايا شخصية محسن ابراهيم كانت حدة ذكائه وسرعة بديهته ولمعة نكاته المدهشة، فسأروي ما قاله لي ذات يوم عن تلك الزيارة.. دخل ابراهيم وجورج حاوي إلى مكتب خدام، فبادره ابراهيم بالقول: يبدو أنك نحيلاً؟ فقال خدام: نعم، لقد عملت على إنقاص وزني بقرار مني. فبادره ابراهيم فوراً: وأنا وزني نازل بقرار منك…

*************

ترك صمت “أبو خالد” لغزاً في السنوات التي تلت العام 2005 وكان صمته كالبصمة العصية على تفكيك كامل أسرارها والأدوار التي إضطلع بها، والتي تحمل في طياتها قبول بـ “الواقعية السياسية”، وهو ما كان يكشف عنه تلميحاً وتصريحاً في المقابلات التي أجريتها معه.. وعندما سألته في إحداها عن الذين يجب أن يعتذر منهم محسن ابراهيم نتيجة لقراءته المختلفة في التسعينيات عن تجربة السبعينات أجابني: لا أعتقد فيما ذكرت ما يوجب الاعتذار.. مع استعدادي الكامل لإجراء أي نقد ذاتي..أحاول أن أقرأ بنظارات التسعينيات وقائع العقدين الماضيين”(مقتطفات من مقابلة بتاريخ 26/4/1993 منشورة في صحيفة السفير)

 لقد تعبت وكثر غيري من الزملاء – وخاصة الكاتب صقر أبو فخر- في محاولات إقناع “أبو خالد” بالحصول على تسجيل مذكراته، فكان دائماً يمزج الإجابة بنوع من الالتباس الغامض، فلا يؤكد أو ينفي كتابة مذكراته..

**************

في مكتبه، وبعد اتصال مع مديره المرحوم خالد غزال لتحديد موعد لي بعد طول انقطاع لسنوات، زرت أبو خالد، وكنت ممن يَحْظون باحترامه وبتزكيتي المهنية، وبثقة غير معلنة، لأنني لست ببغاء مهنة أردد ما يجب عليّ قوله، كما كان يقول.. تدفقت أسئلتي، ولم يبخل بجواب أو تحليل أو نكتة لاذعة، أو تقييم لهذا الموضوع المُثار أو ذاك.. والمجالس بالأمانات.

رحم الله الاستاذ محسن ابراهيم..وأغبط من يملك بعضاً من مذكراته/ذكرياته/أسراره لا أسرارهم.

بيروت 24 أيار 2021

*كاتبة صحافية لبنانية

Leave a Comment