محسن إبراهيم

محسن ابراهيم أيقونة “الحركة الوطنية” بعد كمال جنبلاط

سركيس نعوم*

لست مؤهلاً قطعاً للكتابة عن محسن ابراهيم العضو الأكثر نفوذاً والأكبر دوراً في “الحركة الوطنية اللبنانية”، طبعاً إلى جانب رئيسها الذي استشهد عام 1977 كمال بك جنبلاط أو بعده. فأنا لم أكن يسارياً يوماً رغم إيماني بالعدالة الاجتماعية والاشتراكية الشمال أوروبية غير القائمة على الغاء الحريات والديمقراطية الفعلية. وهو كان مؤسس “منظمة العمل الشيوعي” وقائدها حتى انتقاله إلى جوار ربه، ولا يزال ملهمها. لكنني كنت عروبياً علمانياً، وهو كان جزءاً من “حركة القوميين العرب” بل ركناً لبنانياً بارزاً فيها. كنت أرى في الزعيم المصري العربي الراحل جمال عبد الناصر فرصة تنقل دول العالم العربي من التخلّف والتشرذم والتعصب الطائفي والمذهبي، إلى إتحاد حضاري ديموقراطي، لا تحكم فيه الدول الكبرى وشعوبها الدول الأصغر منها وشعوبها بفوقية وغطرسة، ولا تندمج فيه الشعوب أو تقهر لأن انتماءها العربي غير العنصري وغير العرقي، لا يلغي الفروقات الكثيرة بينها، ولا يبرر القضاء عليها بالقوة. الراحل محسن ابراهيم الذي نتذكره اليوم بعد انقضاء سنة على غيابه كان صديقاً لناصر وموثوقاً منه. كنت أرى في الكفاح الفلسطيني المسلح فرصة ليس لاستعادة فلسطين من البحر الى النهر لأن واقعيتي المبكرة ومعرفتي بموازين القوى الدولية ولعبة المصالح العالمية وخصوصا بعد حرب 1967 الكارثية، بل لإقامة تسوية سلمية في المنطقة تعطي الفلسطينيين دولة جدية وإن مع قيود مؤقتة، وتمد الاسرائيليين بالحكمة كي يعرفوا ان صراع العرب معهم طويل جداً، وأنهم في النهاية لن يكونوا رابحين إلا إذا اختاروا أن يكونوا جزءاً من المنطقة، لا البقاء جسماً غريبا دخيلاً عليها حاقداً على شعوبها ومصراً على إذلالهم واللعب بهم، وأداة للدولة الأقوى وألأكثر نفوذاً  في العالم. فالدول الكبرى لا صداقات دائمة لها ولا عداوات دائمة بل مصالح دائمة. وعلى إسرائيل أن تنتبه الى ذلك رغم أن الدول الكبرى والعظمى لم تخذلها حتى اليوم رغم تناقضها. لكن يكفي أن تتعرض إلى الخذلان مرة واحدة كي تصاب بخسارة فادحة، لانها بتركيبتها وبمحيطها العربي وعدائها المتأصل له لا تستطيع أن تحتمل خسارة فعلية واحدة. محسن ابراهيم كان مؤمناً بالثورة الفلسطينية وكان مخلصاً لها، واستمر مخلصاً لها لمفجرها وزعيمها ياسر عرفات. واستمر إلى جانبه صديقاً وأخاً ومستشاراً و”عضواً” في المجلس الوطني الفلسطيني. ولم يتخل عنه رغم هزيمة إسرائيل له في لبنان عام 1982 وتشرّده ورفاقه وفصائل المنظمة في “أصقاع” العالم العربي.

طبعاً لم أكن ولا سيما في مرحلة الحرب الأهلية وغير الأهلية جزءاً من الثورة – الحرب التي اندلعت في لبنان عام 1975، والتي بدأت ارهاصاتها عام 1969 رغم اعجابي الشديد واحترامي الكبير لكمال جنبلاط ومعرفتي ان استدراجه الى حرب لبنانية – لبنانية ما كان ممكناً لولا تشدد الفريق اللبناني الآخر، الذي رفض كل إصلاح يجعل المشاركة الوطنية في لبنان حقيقية. إذ إن من يكون شعار حزبه “مواطن حر وشعب سعيد” يكون راقياً إلى أبعد الحدود، ومحترِماً للديمقراطية بكل قيمها وفي مقدمها المساواة والحرية على أنواعها. كما لم أكن جزءاً من الفريق اللبناني الآخر للحرب، رغم اقتناعي بانها وجرّاء الصيغة الطائفية التي طغت عليها فرضت على الكثيرين من المواطنين غير المؤمنين بها “التقوقع” في مناطق أكثريتهم الطائفية، خوفاً على أنفسهم من ممارسات وحشية لم يتورع أحد من المتحاربين عن ارتكابها نظراً الى الخوف الكبير المتبادل، واكثر من ذلك نظراً إلى تدخل إسرائيل فيها والدول العربية والمعسكرين الدوليين بزعامة أميركا والاتحاد السوفياتي. علماً ان الهدف لم يكن رفع “الغُبن” عن المسلمين الذي تسبب به المسيحيون ولا إزالة “الخوف” من قلوب المسيحيين من ضم لبنان الى محيطه العربي – الاسلامي، وتالياً من تحولهم مع الوقت تابعين للمسلمين ومنقوصي الحريات على تنوعها. بل كان الهدف تنفيذ أنظمة عربية مختلفة “اجنداتها” المتناقضة التي غشت معظم الأحيان شعوبها المؤمنة بها. إذ لم تكن تحسين أحوالها الحياتية، ولا بناء دول مؤسسات فيها، ولا احترام الحريات ولا طبعاً تحرير فلسطين. بل كانت التذرع باستعادة حقوق الشعب الفلسطيني ودرء خطر إسرائيل على شعوب عربية عدة من أجل الاستمرار في السلطة وممارستها بعيداً من أي حسّ بالعدالة والمساواة والحريات.

لكن كوني مواطناً مؤمناً بالقيم التي ذكرت وهي العيش المشترك الفعلي والمواطنة والعلمانية والحريات والديموقراطية وصحافياً في جريدة “النهار” الواقعة في الشطر الغربي من بيروت، حيث كانت “الحركة الوطنية” وأحد أبرز قادتها محسن ابراهيم ومعها منظمة تحرير فلسطين بفصائلها، والفصائل الفلسطينية التابعة لدول عربية متقاتلة او متنافسة ولكن على أرض لبنان وبأبنائه و”ضيوفهم” اللاجئين الفلسطينيين، لكن ذلك ابقاني مهنياً في”المناطق الغربية” كما في المناطق الشرقية. لكن أهلي وعائلتي أي زوجتي وأولادي انتقلوا الى حيث تعيش غالبية مسيحية مع أقلية مسلمة طلبا للأمان. علماً انه لم يكن دائماً موجودا لأسباب لا علاقة لها بالقضية أو بالقضايا.

معرفتي بالصديق محسن ابراهيم، وهو صديق بحق رغم أن لقاءاتنا لم تكن كثيرة توثّقت في اثناء غزو إسرائيل لبنان على نحو واسع عام 1982. اذ كان ومجموعة “الحركة الوطنية” أو غالبيتها يجتمعون في استمرار في وزارة السياحة التي كان يشغلها الزميل والصديق مروان حماده، والتي كان يفصلها عن مقر عملي “النهار” “قطع الطريق” فقط والتي تحولت نوعا ما إلى مقر رسمي ثانٍ لها. وكم مرة حضر الزعيم التاريخي الفلسطيني إليها وقيادات أخرى من منظمته وزعماء أحزاب أخرى كان أبرزهم من لم “يستشهد” في تلك الحروب، بل بعد انتهائها بنحو 15 او 16 سنة وعلى أيدي من يفترض انهم كانوا حلفاء له في حروب 1975 و989 الشيوعي جورج حاوي، كما كان منهم الصديق الدكتور البير منصور وآخرون. أفسح ذلك كله في المجال أمام نشوء علاقة بين محسن ابراهيم وبيني فيها الكثير من العمل الصحافي وبعض الاستحسان والصداقة، لكنه كان دائما ورغم لطفه يتساءل أين أقف بالضبط. إذ كنت في نظره أنتمي الى الفريق الآخر لا الميليشياوي ولكن السياسي المتمثل بالرئيس (الراحل) الياس سركيس. وكنت مؤمناً بأنه سيؤسس”نيوشهابية” في لبنان بعدما ضُرِبت الشهابية الأساسية قبل الحرب على يد بعض “أبناء مؤسسها” فؤاد شهاب وأصدقائه من مدنيين وعسكريين، وستنفذ عملاً لم يقم به. وهو الافادة من وقوف المسلمين معه بحضّ من الرئيس عبد الناصر وأميركا وفرنسا وعدم رغبة المسيحيين الكارهين له في مواجهته لبناء دولة وطنية لا طائفية تكون المشاركة في حكمها وفي الحقوق فيها كاملة بين المسيحيين والمسلمين. طبعاً لا يعني ذلك انه لم يفعل شيئاً بل أسس مؤسسات حديثة لدولة لبنان وعملت في عهده مثل الساعة، وبدأت تخرب في عهد سلفه الذي اختاره بنفسه الرئيس شارل حلو والأجهزة الأمنية التي أولاها ثقته. وكان خرابها طبيعياً لأن الدولة كانت غير صالحة على أكثر من صعيد. لكن وبعد سنتين أو اكثر بقليل التقينا مصادفة على رصيف واقع بين “النهار” ووزارة السياحة. تبادلنا سلاماً حاراً وبعد حديث قصير قال لي: “لقد اجتزت الامتحان” وكان يقصد بذلك محاولة الاغتيال التي تعرضت لها في عام 1984 في العاشرة ليلاً في مكتبي “النهار” بتدبير من مرجعية أمنية تابعة لموقع سياسي أول، والتي نجوت منها بأعجوبة.

طبعاً لا أريد الإطالة. لكن لا أستطيع أن اختم “شهادتي” علماً انها أقل قيمة وبكثير من شهادات آخرين عايشوه في كل مراحل حياته من دون الإشارة الى أمور خمسة. الأول هو إدراكه بعد انتهاء حرب السنتين أو قبله بقليل، ولا سيما في مرحلة اعتراض سوريا المكلّفة عربياً انهاء الحرب عام 1976 على إدخال الرئيس الياس سركيس الذي اختارته للرئاسة الزعيم كمال جنبلاط في اول حكومة له، إدراكه أن على اللبنانيين المتفائلين أن يتواصلوا وبطرق عدة وإن غير ماشرة مع سركيس، وربما مع آخرين لأن مصلحة البلاد تقتضي ذلك. ويعني ذلك ان أفكاراً عدة عن مصالح  متضاربة للمتداخلين في لبنان من العرب قد تكون راودته ودفعته إلى الاقتناع بأن هناك جانباً لبنانياً للصراع يجب عدم أهماله، ويحتاج إلى تشاور لبناني لتسويته. الثاني إخلاصه للقضية الفلسطينية ولياسر عرفات مفجِّر ثورتها الشعبية وكفاحها المسلح للمرة الأولى بعد تأسيس “دولة اسرائيل” ومارس ذلك باستمراره عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني حتى رحيله عن هذه الدنيا، وبتقسيمه اقامته بين لبنان وطنه وتونس ملجأ أبو عمار وقيادته. الثالث نزاهته واحترامه لنفسه بعد انتهاء الحروب في لبنان بسيطرة سوريا حافظ الأسد عليه بقرار منه، سمحت له أميركا بتنفيذه بعدما قضت مصلحتها عام 1990 بذلك. كانت الحصول على تأييده لحملتها العسكرية الدولية الهادفة إلى طرد قوات عراق الراحل صدام حسين من الكويت التي غزاها عسكرياً و”ضمها” إلى بلاده. إذ إن أصدقاءً كثيرين له وحلفاء وحتى أعضاء، استمالتهم سوريا بعد اغرائهم بالمناصب العليا والمتوسطة وبالاعمال والمشاريع. لكنه كان عصياً عليها رغم أن الراحل عبد الحليم خدام، وكان أقرب المساعدين الى الأسد الأب، دعاه الى زيارته في دمشق وعرض عليه أن يكون جزءاً من التركيبة اللبنانية الموالية لسوريا. لكنه رفض بكل تهذيب. الأهم من ذلك انه امتنع عن “الحركشة” بسوريا ودورها لبنانياً مكرِّساً وقته لفلسطين ولحزبه، ربما لمعرفته ان العهد السوري سيبقى طويلاً في لبنان لأسباب اقليمية ودولية عدة.

الرابع هو سعة فكر محسن ابراهيم وعدم تحجره وشجاعته بإعادته النظر في كثير من الأمور العامة، وحتى العقيدية التي أنشأ عليها “منظمة العمل الشيوعي”. وطبيعي ان تكون تجربته العميقة والواسعة في الحروب اللبنانية، واطلاعه العميق على المداخلات العربية والدولية فيها من “حليفة وعدوة”، ومتابعته العميقة والدقيقة للتطورات الدولية وأبرزها على الاطلاق انهيار الإتحاد السوفياتي الشيوعي “حليفه” امام الولايات المتحدة ورأسماليتها، طبيعي أن تكون التجربة والمتابعة دفعاه إلى مراجعة الفكر العقائدي للمنظمة.

كانت مراجعة عميقة وشاملة لكنه لم يخرج منها باعتناق الرأسمالية التي كانت مناهضة في رأيه لحقوق الشعوب و… بل بقي أشتراكياً وشيوعيا بعدما نقض وبدراسة معمّقة وبعد اجتماعات كثيرة مع أركان المنظمة بعض أسس الشيوعية التي مارسها “السوفيات”.

أما الأمر الخامس والأخير فكان ظرفه وخفة دمه واجتماعيته وحبه للفرح والكيف في أوقاتهما رغم جديته السياسية والعقائدية.

وغني عن القول إن النقض أعاد في شيوعيته الاعتبار إلى قضايا عدة مثل الحرية والديموقراطية.

*اعلامي وباحث ومحلل سياسي لبناني

Leave a Comment