رشيد درباس*
في النصف الثاني من الخمسينيات كان اسم محسن ابراهيم مقيماً في أعماق عاطفتي مع رعيل قائد كانت نظرتي إليهم ترفعهم إلى مستوى الأطياف المطهرة، يتقدمهم المغفور لهم جورج حبش وهاني الهندي وأحمد الخطيب والحكم دروزة ومصطفى بيضون وسواهم.
كان وعيي السياسي الأول يلتهب حماسة من خلال انتسابي إلى حركة القوميين العرب على يد أستاذي المرحوم مصطفى صيداوي، حيث تعرفت من خلاله على مؤسسي الحركة في الشمال المرحومين برهان غلاييني ورشيد فهمي كرامي ومعن زيادة وأحمد سلامة، وكذلك صلاح صلاح متعه الله بالصحة، ولكن ما أذكره أنني شاهدت الأخ محسن لأول مرة، بعيد استقالة الرئيس فؤاد شهاب، إذ حملت له رسالة شفهية من الدكتور جورج حبش حيث كنت في دورة حزبية في دمشق، يستفسر من خلالها عن طبيعة الأحداث، وأذكر أيضاً أن الحكيم أعطاني مفاتيح تشفير الجواب فتلقفها محسن بضحكة عريضة؛ بعد ذلك صار الأخ محسن بالنسبة لي شخصاً مجسداً لم يخلع عنه رداء الطيف العالي، ولكنه تزيا بهندام قائد ملموس، شديد الثقة بنفسه، وبتأثير قوله على سامعيه، يستعمل لغة فصحى من قاموس الأسياد ونبرة عميقة واثقة، ويمارس الدعابة السياسية التي تغني عن محاضرة نظرية، أما إذا ذهب إلى التنظير فكان علينا أن نمسك أنفاسنا حتى لا تفوتنا شاردة أو واردة؛ ولعل ما كنت ألاحظه فيه انه رغم عقائديته، كان على نزوع ملموس إلى البراغماتية، إذ كان يستطيع أن يصوغ شعارات المراحل ببراعة كلية، وكانت سائغة ومقبولة كلها لدينا رغم تباينها عن بعضها بين حين وآخر.
هنا أعقل قلمي عن الاستفاضة، لأن الحديث عن أبي خالد يقتضي أن أروي معظم سيرتي السياسية والشخصية في صفحات لا أعرفها عَداً، ولهذا كان لزاماً علي أن أختار محطات ومنعطفات، كانت تشكل ملامح تلك الشخصية الاستثنائية التي لمعت في سماء لبنان والعالم العربي سحابة نصف قرن من الزمان.
لا بد لي أن أعترف أولاً، أن ما دفعني للانتساب للحركة هو شعار الثأر الذي رفعته في وجه النكبة، كما أنني أعترف أيضاً أن هذا الشعار كان مدعاة مناقشات حادة مع البعثين والشيوعيين إلى أن وجدنا أنفسنا بعد ذلك ومن حيث لا ندري، قد هجرنا تلك البقعة المتعصبة واللفظية إلى القضايا الاجتماعية وصراع الطبقات، ما أدى إلى انشقاق الحركة بين يسار ويمين فتركت التنظيم في العام1964، ولكنني كنت ميالاً لليسار ولمحسن ابراهيم ومحمد كشلي وعبد الحليم حريبة ونايف حواتمه ومصطفى صيداوي؛ ولكن عاملاً آخر كان حاسماً في انحيازي، هو إيمان الاستاذ محسن بثورة عبد الناصر – الذي مازلت أحبه- وعلاقته المتينة به؛ رويت مرة أنه كان يعقد لنا اجتماعاً في منزلي في القاهرة، عندما أْطلَلْتُ من الشرفة فوجدت حركة مريبة لسيارات ورجال أشداء إلى أن قُرِعَ الباب فلما فتحت وجدت شاباً جاد القسمات يسألني بأدب عن الاستاذ محسن، فلما سألته :” ومن يريده” أجابني : الرئيس جمال عبد الناصر، وحين لمحه صاح قائلاً: لقد دخنا في بحثنا عنك، فالرئيس ينتظرك منذ مدة”.
إنني اعترف بأنني كنت أجد ببراعته موئلاً لقلقي القومي والاجتماعي والعاطفي، إذ خَرَّج لنا معادلة مريحة مفادها أن التجربة المصرية هي تطبيق حي لتزاوج القضية القومية مع القضية الاجتماعية.
وإذ أقفز مؤقتا عن حقبة الحركة الوطنية والحرب “الكونية” التي دارت في لبنان، فلأروي أنه بعد أن خلد أبو خلد إلى استراحته السياسية صارت لنا بصورة شبه دورية لقاءات تضمنا مع الإخوة جان عبيد وتوفيق سلطان وفؤاد شبقلو، حيث كانت تدور حوارات ساخنة يبردها في النهاية أحد الحكيمين؛ وفي مرة، حكى لنا الراحل العزيز كيف التقى بالرئيس عبد الناصر قبيل حرب 67، وقد كان على ثقة وطيدة بالنصر، ولما عاد إليه بعد ذلك من رحلته إلى الجزائر، وجده مهموماً لكنه كان مصمماً في الوقت عينه على الخروج من الهزيمة.
وبالعودة إلى مرحلة الحركة الوطنية والبرنامج المرحلي، ودعم المقاومة الفلسطينية، فقد كانت قيادة الشهيد كمال جنبلاط تعتمد فيما تعتمد، على جناحين شيوعيين هما الشهيد جورج حاوي والمرحوم محسن، حيث شكل الاثنان معاً ثنائياً فائق الذكاء، دؤوب الحركة، يبتكران الموافق، وينشئان العلاقات الداخلية والعربية والدولية، فلما استشهد الزعيم، حصل انكفاء خطير في العمل الوطني، والتصاق أكبر بالمقاومة الفلسطينية إلى أن كان الاجتياح الاسرائيلي، فقرر الاثنان معاً، من عمق ملجأ اتخمته القذائف، أن يعلنا تأسيس جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية التي سطرت صفحات مجيدة في العمل الوطني إلى أن جرى وأدها على الطريقة المعروفة.
العزيز محسن كان يرى إلى آثار الهزيمة القومية والوطنية بعين ثاقبة، وعقل منفتح وقد تجلى ذلك في خطابه الشهير في ذكرى رفيقه جورج حاوي عندما أعلن بملء الفم، وبموقف نقدي شجاع:” لقد حَمَّلْنا لبنان أكثر مما يحتمل”.
ولقد كانت لتلك العبارة ترددات متبانية ولكنها كانت تؤذن بضرورة المراجعات التقويمية لمرحلة سادها الالتباس وأثخنتها الخيبات وتركت بصماتها الوبائية على بنية الدولة اللبنانية التي كانت مؤهلة للقيام بدور تنويري حضاري في خدمة القضايا القومية، فإذ بالقوى المتحمسة تنجرف في منزلق حَوَّل الدولة إلى وقود لمشاريع متعددة متناقضة مع المصالح الشعبية، حيث نعاين اليوم بالحواس كلها، وبالرؤية الحزينة كيف يعيش اللبنانيون تحت مستوى الفاقة، وهم يشهدون اضمحلال الدواء والمحروقات واختفاء الكهرباء وتبخر فرص العمل، وانهيار الأجور في مشهدية ما كانت لتكون، لو تمتعت الطبقة السياسية ببعض التبصر ونَزَرٍ من الوطنية، وقدر قليل من المحبة والانسانية.
لم ننقطع عن التلاقي والمكالمات، إلا عندما قرر بارادته الإعداد للغياب النهائي بعد تعرضه لنكسة صحية خطيرة خرج منها واهناً فآثر ألا نراه بما يخالف ما تعودنا عليه، ولكنه قبل ذلك كان يحلل لنا الأوضاع العامة اعتماداً على معلوماته الغزيرة وبصيرته النفاذة، وبقي معتزاً بدوره الريادي مع المقاومة الفلسطينية رغم مآخذه على النهج الذي شكل لها الخاصرة الرخوة التي نفذ منها العدوان الاسرائيلي.
رحل محسن وفلسطين في قلبه والعروبة في دمه، حسبه ما تركه من تأثير على أجيال من القيادات الفلسطينية والعربية وما أبقاه لأم خالد والأبناء وللإخوة والأصدقاء والرفاق من عطر جنوبي قح ّ ونقيّ عبقت به البساتين العربية من مصر إلى يَمَنٍ.. إلى نَجْدٍ فَتَطْوانِ.. هكذا تعلمنا معه : ” بلاد العرب أوطاني”.
بقي لي أن أوجه له اليوم سؤالاً لم استلطف طرحه عليه مواجهة، فأقول له: لماذا لم تستثمر يا أبا خالد في لقبك الموروث وأصلك الحسيني، وفي مكانتك العربية، وصداقتك الحميمة للزعيم عبد الناصر، وآثرت الذهاب إلى تسمية المنظمة تسمية تقف حاجزاً يحول دون النفاذ إلى عوالم كانت مفتوحة لك ولرفاقك؟ أنا أعرف انك تستطيع أن تدبج جواباً مترعاً بالحجج القيمة، ورغم هذا، سيظل السؤال عندي بلا جواب.
*شغل سابقاً منصب نقيب محامي الشمال ووزير لبناني سابق
Leave a Comment