محسن إبراهيم

محسن إبراهيم وجرأة المراجعة الفكرية والسياسية

حسن بيان *

عندما اتصل الرفيق العزيز زكي طه امين سر المكتب التنفيذي في منظمة العمل الشيوعي ،  للمساهمة بمادة  عن الرفيق المناضل محسن إبراهيم في الذكرى السنوية لوفاته ، لم نتردد لحظة في الاستجابة للرغبة من الرفاق الأعزاء  في منظمة العمل الشيوعي نظراً للمكانة الخاصة التي نحفظها للرفيق ابي خالد في  نفوسنا وللعلاقة مع رفاقنا في المنظمة  قيادة  وقواعد.

في البدء نقدر للرفيق المناضل زكي طه وللرفاق في قيادة المنظمة  مبادرتهم الطيبة، وإنه من دواعي سرورنا أن نكتب عن رفيق شكل ظاهرة في العمل الوطني، وجمعتنا واياه مسيرة نضال مشترك  تبلور بأرقى صوره  بإطاره التنظيمي في مؤسسة الحركة الوطنية، وفي الرؤية  السياسية التي تبلورت في بعدها الداخلي الوطني  بالبرنامج المرحلي للإصلاح  السياسي، وببعدها الخارجي القومي بموقف الدفاع عن الثورة الفلسطينية، وتأمين  حزام امآن سياسي وشعبي لها من محاولات  ومشاريع استهدافها.

صحيح أن الصيغة التي انضوى العمل الوطني  تحت لوائها كانت محصلة  جهد مشترك ساهمت فيه القوى الأساسية التي كانت تمثل الكتلة الصلبة في الحركة الوطنية مع اتساع  مساحة المشتركات السياسية ، الا أن شخصيتين تميزتا بدوريهما في بلورة الاطار الجبهوي لتجربة اعتبرت الانجح في صيغ العمل الوطني المشترك لمرحلة ما سبقه وما استتبعه.

إن الشخصيتين اللتين تميزتا بدوريهما في تمكين العمل الوطني من تظهير حضوره  المؤسسي ،هما القائد الوطني كمال جنبلاط الذي شكل موقعه نقطة التقاطع الإيجابي باجماع وطني، والقائد الحزبي محسن إبراهيم الذي حظي دوره المفصلي في إدارة مؤسسة الحركة الوطنية باجماع وطني ايضاً. وهذا الموقع الذي تبوأه ابو خالد في الحركة الوطنية منحه مساحة واسعة للاتصال والتواصل مع الأطراف المنضوية في اطار مؤسسة العمل الوطني، وفي إدارة الحركة السياسية مع الاخرين من خارج الاصطفاف الوطني.

إن علاقتنا الخاصة الشخصية والعامة الحزبية  التي توثقت بالرفيق ابي خالد بدءًا من النصف الثاني من عقد السبعينيات، تعود في بداياتها إلى سنوات قبل تاريخ ١٣ نيسان ١٩٧٥، من خلال علاقات كان تربطنا بأصدقاء  في “منظمة الاشتراكيين اللبنانيين” ورفاق من  “لبنان الاشتراكي”، قبل أن يندمجا في تنظيم  واحد هو  منظمة العمل الشيوعي، وبمعرفة من أيام الانتساب  لكلية الحقوق  في الجامعة اللبنانية حيث جمعتنا  دورة التخرج وكان الأكثر تميزاً بيننا.

الرفيق محسن إبراهيم الذي الذي تولى موقع الأمين العام التنفيذي في المجلس السياسي المركزي للحركة الوطنية، جاء إلى العمل الوطني من حركة القوميين العرب، وخاصة في الفترة التي كان القائد  جمال  عبد الناصر يعتبرها  حزبه القومي. إن أهم ما تميز به هو رؤيته الاستشرافية وامتلاكه جرأة المراجعة الفكرية والسياسية. 

فالمراجعات الفكرية  تجسدت  بالتحول النظري عنده  من الفكر القومي، وهو كان واحداً من منظَّري حركة القوميين العرب إلى الفكر الماركسي،  الذي شكل الأساس النظري لمنظمة الاشتراكيين اللبنانيين ومن ثم منظمة العمل الشيوعي، وانتهاء بالمراجعة  النقدية “للماركسية “، ومغادرة الفهم الدوغمائي لها الذي اُ سْقِطَ عليها باعتبارها صالحة لكل زمان ومكان. وهذا إن دلَّ على شيء، فإنما يدل  على أن  الرفيق محسن إبراهيم  الذي كان يلعب دوراً اساسياً  ومحورياً في بلورة الأطر التنظيمية وادلج الفكر السياسي للتنظيم الذي ينتسب إليه، كان يتمتع بدينامية قلما توافرت لغيره من قادة وكوادر العمل الوطني. ما سهل له ولوج باب  المراجعة الفكرية في  ضوء المتغيرات التي تطرأ على مسار التطور الإنساني والاجتماعي.  وهذه  ظاهرة إيجابية في العمل السياسي لأنها تخرج  الالتزام الحزبي عن قواعد القولبة الجامدة، وتفتحها على المتغيرات التي تحاكي  المعطيات الواقعية.

أما  المراجعة السياسية فقد تجسدت في قراءته للأوضاع المحيطة بواقع العمل الوطني والقومي الذي  كان يتمحور حوله خطابه السياسي . ومع القدرة التي كان يتميز بها  “أبو خالد “في صياغة الخطاب التعبوي الذي تمليه  مقتضيات النضال الجماهيري والتعبئة الشعبية، الا أنه في التقدير السياسي كان يستخرج الموقف من خلال تقديره  لنصاب توازن القوى السائد، والذي يمكن أن يتشكل لاحقاً.  وعليه كان يبني قراءاته السياسية  بالاستناد إلى معطى موازين القوى وليس إلى مضمون الخطاب التعبوي.

لقد ادرك الرفيق محسن إبراهيم، ويوم كانت الحركة الوطنية تشكل محوراً سياسياً استقطابياً على الصعيد الوطني،  أن مستقبل العمل الوطني في لبنان لن يكون  مشرقاً، لأنه في ضوء ما تشهده  الساحة اللبنانية من صراع يدور على أرضها والقوى المعادية المتربصة بالثورة الفلسطينية والقوى الوطنية  المتحالفة معها، فان اقصى الطموح الوطني هو أن يبقى للمعارضة الوطنية موقع على خارطة العمل السياسي. وقد تأكدت  صحة هذه القراءة من خلال التسوية التي أنتجت سلطة  جديدة استناداً إلى اتفاق الطائف. فلو جرت الأمور ضمن  سياقاتها  الطبيعية لكان يفترض أن تكون الحركة الوطنية أحد الأطراف التي يفترض حضورها  في انتاج التسوية، باعتبارها كانت طرفاً في الحرب التي دارت على أرض لبنان. ومن يكون طرفاً في حرب يكون حكماً طرفاً في الحل الا اذا هُزم مشروعه السياسي . وكان أبو خالد يرى أن المشروع السياسي الوطني سيهزم، لأن موازين القوى التي انخرطت في الصراع ضده، والتي كانت تتحين الفرص للانقضاض عليه وعلى حلفائه، لم تكن لمصلحته  ومصلحة حاملته الوطنية. لهذا السبب فإن النظام  في ظل  الرعاية الرسمية العربية والدولية أُعيد انتاجه، وَمُكِنَتْ  القوى  المسكونة بالعقلية الميلشياوية من الإمساك بمفاصل السلطة، وهو ما ادى  إلى الانهيار العام، بسبب افتقار الحكم للعقل المؤسساتي في إدارة شؤون الدولة.

 إن “أبا خالد” الذي كان واحداً من قادة العمل الوطني في لبنان ودائم الحضور  في الحركة السياسية الوطنية حتى منتصف  الثمانينيات، فرض على نفسه اعتكافاً، وهذا ما أدى إلى اتساع مساحة الفراغ الوطني  في العمل السياسي.لأن محسن إبراهيم الذي لم يأخذ  دوره في العمل الوطني من مرجعية التمثيل الشعبي كتلك التي مثلها كمال جنبلاط  وعبد المجيد الرافعي، أخذ دوره من خلال تاريخيته في العمل الوطني والقومي موضوعياً، ومعطياته الشخصية ذاتياً، ولهذا كان وجوده ضرورة وطنية لتظهير أي اطار مؤسسي للعمل الوطني وغيابه ملحوظاً.

 إن الرفيق محسن إبراهيم الذي  اختزن تجربة غنية  من العمل الوطني بمضمونه الاجتماعي وأبعاده القومية،  كان قارئاً  جيداً للواقع السياسي بحاضره ومستقبله،  وامتلك جرأة ممارسة النقد الذاتي للأداء الوطني على  مستوى الموقف والممارسة، وشجاعة المراجعة السياسية والفكرية في ضوء المتغيرات الحاصلة.  وهذا الذي لم يمارسه  غيره أو مارسه باستحياء  وهو مطلوب،  لا يستطيعه الا واحد من  أمثال محسن إبراهيم،  امتلك شرعية وطنية نمت  معه من وسط عائلي منفتح  على الفكر  التقدمي الرافض  للتعصب،  ووجد نفسه في بيئة العمل السياسي الوطني الأرحب  بعناوينه التقدمية والتحررية. ولهذا تبدو الحاجة  إلى قادة  من أمثال الرفيق محسن إبراهيم لتطوير العمل الوطني وتفعيله ، والثقة كبيرة برفاقه الذين يكملون المسيرة التي خطها، وهو الذي  كان  واحداً من أبرز قادة النضال الوطني.

تحية إلى روحه في الذكرى  الأولى لوفاته، وتحية لرفاقه المناضلين الذين نسير الدرب معاً  لإنهاء الاستلاب الاجتماعي لجماهيرنا والإستلاب القومي لأمتنا العربية.

*رئيس حزب طليعة لبنان العربي الاشتراكي. 

Leave a Comment