يوسف مرتضى*
إن رحيل مفكر وقائد بوزن أبي خالد ومكانته وسيرته النضالية، يكشف مدى الحاجة في عتمة نهارات لبنان والبلدان العربية الطاغية على المشهد السياسي اليوم، إلى استعادة صفحات من تاريخ شعب ووطن، ودور قائد في رسم صيرورة حركة التحرر والتقدم والاستقلال، والنضال من أجل العدالة والكرامة وحقوق الإنسان. فتاريخ الرفيق القائد أبو خالد هو جزء من تاريخ لبنان الحديث، ومن تاريخ المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الإسرائيلي لبلدنا. كما هو جزء من تاريخ حركة القوميين العرب والنضال من أجل فلسطين. وهو جزء من تاريخ اليسار والشيوعية وحركة التحرير والتغيير في المنطقة العربية. كان الرفيق أبو خالد نموذجاً للفكر المتطور المتجدد، عاش الوطنية والعروبة والأممية كإنسان أولاً وكمفكر وقائد تالياً. ولا أبالغ إذا قلت، أن موجة النهضة الفكرية في الحركة الثورية العربية بعد هزيمة العرب في حرب حزيران عام ١٩٦٧ قد ارتبطت بفصائل اليسار الماركسي التي تصدرتها أجنحة من حركة القوميين العرب، وفي مقدمهم الرفيق محسن إبراهيم. وفي آواخر ستينيات القرن الماضي وبداية سبعينياته تركت عملية التعريب في المؤتمر الثاني للحزب الشيوعي اللبناني عام ١٩٦٨ أثرها العميق عند الشيوعيين عموماً، ومحازبي منظمة العمل الشيوعي خصوصاً، ذلك أن الشيوعيين حزباً ومنظمة بقيادة جورج حاوي ومحسن إبراهيم تمسكوا في ذلك الوقت بما أسموه التلاحم اللبناني-الفلسطيني .
ذاك التحول الذي وصفه الرفيق أبو خالد في الذكرى الأربعين لاستشهاد رفيق دربه وتوأمه الفكري الشهيد جورج حاوي بـ”…الفريد في بابه على مستوى بلدان المنطقة كلها”. ليستطرد قائلاً “…ثم كنا أمام لبننة لليسار القومي العربي في لبنان أحدثت فتحاً جديداً في إرساء نقطة التقاطع والتوازن بين الوطني والقومي ضمن خارطة عربية، كانت ألوانها وشواخص حدودها تتبدل على غير انقطاع. وهو ما نشأت في امتداده منظمة العمل الشيوعي في لبنان مطلع السبعينيات “. وهكذا أصبح الرفيق أبو خالد بعد ذلك التاريخ مع الرفيق الشهيد جورج حاوي بمثابة الآلة الحقيقية الناشطة في استقطاب قوى اليسار القومي الديمقراطي في البلدان العربية والمساهم في الجهد الفكري الثقافي في إعادة قراءة فهم النظرية (الماركسية-اللينينية)، وعلاقتها بمسألة التحرر القومي وبشكل خاص موقفها من حق تقرير المصير للشعب العربي الفلسطيني. لقد شكل القائد محسن إبراهيم مع القائدين الشهيدين كمال جنبلاط وجورج حاوي ثلاثي الحركة الوطنية الأبرز. تلك الحركة التي حركت وأطلقت تياراً شعبياً زاخراً عابراً لكل المناطق والطوائف، اشتقت من حقائق نضالاتها المتراكمة خلال ستينيات والنصف الأول من سبعينيات القرن العشرين برنامجاً يخاطب مصالح اللبنانيين ويلبي حاجاتهم. ويمكن اعتباره عن حق أبرز وأهم برنامج نهضوي في تاريخ لبنان الحديث .برنامج الحركة الوطنية للإصلاح الذي يتطابق في بنوده الأساسية إلى حد كبير مع تطلعات ومطالب ثورة ١٧ت١ في بناء دولة المواطنة السيدة العلمانية الديمقراطية العادلة. ولأن المساحة المتاحة للكتابة في استذكار سيرة ومسيرة الرفيق أبو خالد في الذكرى السنوية الأولى لرحيله لا تسمح لي بمزيد من الإستطراد. وسعياً للتزود من معين فكره وتجربته بما يساعدنا نحن معشر الوطنيين واليساريين والشيوعيين اللبنانيين في هذه اللحظة من نضالنا الوطني اليوم من أجل بلورة مشروع وطني ديمقراطي للتغيير في لبنان، أتوقف عند ميزتين أساسيتين من مزاياه الكثيرة.
أولاً، جرأته في ممارسة النقد الذاتي. وللدلالة على ذلك استشهد بما قاله حرفياً في الذكرى الأربعين لاستشهاد جورج حاوي في خريف العام ٢٠٠٥: “…هل تراني أردت الإفلات من مسؤولية النقد الصريح لما كان من أخطاء هذه الحركة الوطنية وبعضها كان قاتلاً؟ كلا بالتأكيد، فليس هذا نهجي ولا هو نهج رفيق دربي أبي أنيس. وإذا كان ثبت الأخطاء هنا يطول فإنني أكتفي بإيراد اثنين منها كان ضررهما عظيماً على الحركة الوطنية اللبنانية وعلى البلد في آن. الخطأ الأول- إننا في معرض دعم الشعب الفلسطيني ذهبنا بعيداً في تحميل لبنان الأعباء المسلحة للقضية الفلسطينية فوق ما يحتمل، طاقة وعدالة وإنصافاً. والخطأ الثاني أننا استسهلنا ركوب سفينة الحرب الأهلية تحت وهم اختصار الطريق إلى التغيير الديمقراطي…”. واليوم للأسف هناك من يريد تحميل لبنان أعباء مشاريع محاور إقليمية تحت عناوين مذهبية لا طائل له فيها، بتحويله إلى منصة توزع المقاتلين في هذه الناحية العربية أو تلك بذريعة المقاومة ضد العدو الصهيوني، فتعزل لبنان عن محيطه العربي وعن المجتمع الدولي وتتسبب في محاصرته وتجويع شعبه، بعدما ساهمت في تعطيل مسار بنائه الدستوري الديمقراطي لسنوات طويلة. فهل يستدرك هذا الفريق ويتعظ من تجارب الماضي قبل أن تنحدر الأوضاع في البلاد إلى الفوضى العارمة وزجها في آتون حرب جديدة، فيجري مراجعة نقدية لسياساته مع شركائه في السلطة مستفيدين من درس الحركة الوطنية قبل فوات الآوان؟ أما الميزة الثانية، فهي جرأة الرفيق القائد أبو خالد في التجديد الفكري والسياسي ، حيث لم يحل تمسكه بالمبادئ والقيم الوطنية والقومية والإنسانية من تحديث الأفكار والشعارات والأدوات بما يتناسب مع التحولات العلمية والاقتصادية والاجتماعية ومتطلباتها النضالية المناسبة، فهكذا كان دوره في حركة القوميين العرب كما أشرت سابقاً، وكذلك كانت مساهماته مع الرفيق الشهيد جورج حاوي في تجاوز النظرية اللينينية حول وجود حزب شيوعي واحد في كل بلد، ووسم أي حزب شيوعي آخر فيه بالإنتهازي. فتعايش الحزب والمنظمة في لبنان، وناضلا معاً وسعيا جدياً للاندماج وقدما مدرسة في العمل السياسي الجبهوي بقيادة الشهيد القائد كمال جنبلاط. وكانت المحطة الأخيرة في مساهمات الرفيق الراحل أبوخالد التجديدية في المؤتمرالرابع للمنظمة في تشرين الثاني عام ٢٠١٨ الذي أقر من جملة مراجعاته الفكرية والسياسية والتنظيمية تغيير إسم المنظمة. في موازاة ما بدأه الرفيق أبو خالد والمنظمة، لم يكتب النجاح لمحاولة الحزب الشيوعي اللبناني التي بدأت في مؤتمره السادس عام ١٩٩٢، من أجل إرساء مسار تحديث وتجديد فكري وسياسي وتنظيمي وبما في ذلك تغيير إسم الحزب، الذي طُرح استبداله باسمه الأول (حزب الشعب) بعد انهيار التجربة الشيوعية في الإتحاد السوفياتي ونظراً لارتباط إسم الحزب بمضمون سياسي اقتصادي اجتماعي فشلت تجربته السوفياتية التي كان ينتمي إليها. كما لم تفلح محاولاتنا اللاحقة من أجل معالجة أزمة الحزب مسترشدين بالنهج التجديدي للرفيقين محسن ابراهيم وجورج حاوي الذي تمرسنا عليه في نضالنا المشترك من أجل لم شمل الشيوعيين واليساريين والديمقراطيين، من ضمن رؤية فكرية سياسية جديدة تحاكي واقع الحال اللبناني والعربي، وترسم خارطة طريق للنضال من أجل التغيير الديمقراطي في لبنان.
وكلمة حق تقال، أنه لم تقتصر الجهود التوحيدية للشيوعيين واليسار على ما قمنا به نحن من مبادرات تجاه قيادة الحزب، خاصة بعد المؤتمر الحادي عشر للحزب الشيوعي اللبناني ، بل عمدنا إلى التعاون والإستعانة بالرفاق في قيادة منظمة العمل الشيوعي وتحديداً مع الرفيق أبو خالد الذي ربطتني به علاقة نضالية رفاقية منذ بداية ثمانينات القرن الماضي كانت لنا فيها محطات هامة وخطيرة لايتسع المجال هنا لذكرها، وتعززت تلك العلاقة أكثر في مرحلة التسعينيات واستمرت دون انقطاع. أطلعت الرفيق أبي خالد على ما نفكر به وعلى مجهوداتنا التوحيدية مع قيادة الحزب فكان مؤيداً مرحباً ومشجعاً وداعماً، وكلف الرفيق أحمد جابر متابعة الأمر معنا. ونحن أمام عمق الأزمة التي تتخبط فيها البلاد، وبروز الحاجة الملحة لبلورة خيار ديمقراطي للتغيير يشكل قاعدة ورافعة لثورة ١٧ت١ يملي علينا واجبنا الوطني ونحن في قلب المواجهة مع منظومة الحكم الفاسدة، أن لا ندخر جهداً من أجل تأمين شروط ولادة مثل هذا الخيار متسلحين بمنهجية الفكر التحديثي للرفيق الراحل أبو خالد، ومسترشدين بمدرسة الثلاثة الكبار “كمال جنبلاط، جورج حاوي ومحسن إبراهيم”. وذلك سيبقى عهداً علينا ما حيينا وما استطعنا إلى النضال سبيلاً، من أجل بناء قوة التغيير الديمقراطي التي يحتاجها لبنان اليوم أكثر من أي وقت مضى.
لروحك السلام ولذكرك الخلود الرفيق القائد أبو خالد.
*اعلامي وكاتب صحفي
Leave a Comment