مروان عبد العال*
4 تموز 2021
انتفاضة الجيل الفلسطيني الجديد على كامل ترابهم التاريخي، كانت حاجة ملحة للفلسطينيين في ديارهم وحصارهم وقلاعهم ومخيماتهم وشتاتهم القريب والبعيد. فهي بمثابة اوكسجين جديد للهوية الفلسطينية. “الوطنية”، هي تلك الروح التي أنعشت فيهم خلايا الأمل. وجددت الذاكرة والحلم، واُستعيد بها الاعتداد بالنفس والثقة بالذات والاعتزاز بالانتماء. نفضت الغبار عن مفاتيح بيوتهم المخبأة في زوايا المخيم، وجعلتهم يتلمسون دروب العودة إلى الديار. إنه الجيل الرابع من عمر التغريبة الفلسطينية، بكل ما فيها من حنين وأنين وعذاب، وتمرد من ألم وأمل، وسردية فلسطين العائدة من جديد.
عشرة أيام هزت العالم. على أبواب القدس، انتفضت الروح المعنوية والجماعية والقتالية، وتحولت فيها من رد فعل دفاعي وغريزي إلى اشتباك مجتمعي مفتوح في وجه الاحتلال، وتمرد على مفاعيل النكبة من النفي والاقتلاع والتمزق والتشرد والالغاء والتهميش، لتعيد تعريف مفهوم الشعب بمكوناته الاجتماعية والسياسية والثقافية. وقف الجيل الجديد على جبهة الهوية الوطنية. المقاومة، أجدى اشكال البقاء. فهي موجودة حتى في الـ (لا) التي تقال في وجه الظلم والطغيان. إن كنت تؤمن بانك على الحق، تمسك بمعتقداتك، وهي التي ستساعدك على النجاة، كما يقول الكاتب الكيني واثينغو.
أدرك الجيل الجديد أن ما يحقق شرعية البقاء هو ضمان جذور ثابتة في الثقافة الوطنية، أي سؤال الهوية قبل الرفاه، فالصيغة الاستعمارية التي وُلد في كنفها تريد منه الولاء وتصنع له هويته، أن لا يكون فلسطينياً، أن يصبح كل شيء ما عدا أن يكون فلسطينياً. ان يصبح هجين الهوية، وهجين الولاءات. إلا أن الجيل الجديد قدم الوطنية على الإيديولوجيا والسياسة معاً، وفجّرها كقوة كامنة في الوعي والسلوك والثقافة في لحظة المساس بكل ما هو مقدس، ليدلل على غباء القوة التي أعادت التاريخ إلى الوراء، إلى وقائع النكبة، فاستنفر الوطنية المكبوتة على مدار73 سنة كمرجع للفعل الوطني والتضحية الوطنية. وتتوج بشوارع العالم تهتف: “فلسطين حُرّة”.
لقد واجهت الحركة السياسة الفلسطينية بمسمياتها التنظيمية مشاريع الإلغاء والتبديد والإبادة السياسية، كما في “صفقة القرن” التي كثفت لحظة التحدي المركزي، وقوبلت بالرفض السلبي التلقائي والجماعي والمرتكز على تنظيم الخسارة، أو تفريغ حالة الغضب، وظلت أسيرة الدوران في حلقة مفرغة من التردد. لم ينعكس معها الرفض إلى فرصة الصراع بهدف تأصيل وتحديث الرؤية للصراع، وتجديد شباب الحركة الوطنية الفلسطينية، والارتقاء بمفهوم الوحدة الوطنية في الوجدان الشعبي، بما يشمل عناصر قوة المشروع الوطني الفلسطيني على كامل مساحة تواجد الشعب الفلسطيني، كمعيار للوطنية. جاءت الانتفاضة الأخيرة لقرع جدار الخزان بقوة الإرادة الشعبية التي أخذت زمام المبادرة، وأحدثت نقلة نوعية استراتيجية أدت من خلالها دور الانتقال المطلوب من الانفعال اللحظي إلى الفعل الإيجابي النوعي، بل والفعل الجدي الاستراتيجي الذي يتطلب إحداثه في هذه اللحظة التاريخية.
لم ينفصل اللاجئ الفلسطيني يوماً عن وطنيته؛ اذ لم يكن من اسهم في احتضانها و تطويرها، فالوطنية ليست أوراق ووثائق، بل شخصية وتأكيد الذات والوجود والحق والتاريخ والمستقبل والهوية. لذلك تنفس الفلسطيني مع انتفاضة القدس الفكرة الوطنية النقية التي ترمز إلى شرعيته التاريخية، كبديل للطمس والالغاء و للذاكرة المستهلكة والمغلقة، جاعلاً من الانجاز الوطني للشعب الفلسطيني بأكمله نصراً له، بمواجهة الذهنية السلبية التي تختزله بمجرد رقم ومخيم وحالة، مستشعراً أن غزة المحاصرة تفك عنه العزل وتكسر “الغيتو” النفسي. وأن هتافات شباب باب العمود وحي الشيخ جراح واللد وعكا وحيفا وام الفحم، كلما سمع ببلدة في الجليل الفلسطيني، كأنها تعود إليه مجازاً وتنتصر له، وتمنحه بطاقة تعريف جديدة عن هويته المسلوبة نتيجة السياسة الإلغائية، التي سعت إلى تحويل هوية الشتات إلى شتات الهوية، وإلى أن يتحول اللاجئ من مناضل في سبيل العودة إلى الوطن إلى لاجئ ضائع يبحث عن أي وطن!
لم تتوقف عمليات استهداف الهوية الوطنية، وتخريب الروح الوطنية عبر تجويف المجتمع من عناصر طاقته الإبداعية، والتجهيل وتغييب الوعي، وفي سبيل أن يصبح “المنفى الأم” هو البديل عن الوطن الأم. لكن الوعي الجديد والفعل المقاوم أعاد خلق دوره في تعزيز الانتماء الوطني في مخيمات العودة في لبنان وفي استشعار اللاجئ بأن فلسطينيته واقعاً وليست خياراً، وبأن قضيته وطنية وليست إنسانية فقط . قضيته سياسية وليست إغاثية فحسب.
ثمة دلالة انبعاث الطاقة الإيجابية برمزيتها الوطنية الكبيرة، يكاد لا يصدق أن يشكل الشباب في مخيمات لبنان لجان جباية مالية “حنعمرها”، للمساهمة في إعادة اعمار غزة، وأن تنطلق تظاهرات عفوية حاشدة تجوب أزقة المخيمات وتخرج إلى شوارع العاصمة بيروت كسيل بشري غير مألوف، محتفياً ومعتزاً بفلسطينه وعلمها وكوفيتها، وتتنافس بعاطفة مشحونة في الوصول إلى الحدود للتأكيد على التمسك بحق العودة. وانطلقت منابر ثقافية وإعلامية مرئية وصوتية ووسائل التواصل الاجتماعي، لتبث رسائل سريعة التأكيد على الأسماء الاصلية لقرى وبلدات فلسطين المحتلة، تحت وقع روح التمرد والمقاومة، بكبرياء وشجاعة وعنفوان في معمودية تؤسس شيئاً آخر؛ لروح جديدة علها تحرره من التهميش وتسليع الوطنية، في بازارات السياسات المجحفة، والتجاذبات الطائفية التي تحرمه الحقوق الإنسانية وتخرجه من كل معادلة قانونية أو اقتصادية أو معيشية في ظل ظروف قاهرة، فهذا الوجود وطني ضحية النظرة الطائفية، حساباته وطنية وفوق الاعتبارات القاصرة والحصص الوهمية والانانية التي قد تغرق المركب بما حمل ومن عليه، مواطناً ولاجئاً، وهذا يفترض:
(1) استثمار الوطنية الفلسطينية من خلال إنهاء السياسات التمييزية بحقهم، وتبني سياسات حامية للفلسطينيين وصديقة لهم، تخرجهم من عقدة الاستهداف وهذا مقياس للمواقف السياسية الداعمة لنضال الشعب الفلسطيني؛
(2) تحرير المطالب الإنسانية للفلسطينيين في لبنان من “فوبيا” التوطين، وبما يؤسس لتحرير الطاقات النضالية والشبابية الفلسطينية من عوامل الاقصاء والفئوية والانقسام والفصائلية والجهوية، وعلى ان يقترن الخطاب السياسي إزاء القضية الفلسطينية بالممارسة السياسية، يجسد وحدة النضال المشترك والغاية الأولى لتحقيق حق الكرامة والغاية الأكبر حق العودة الى فلسطين؛
(٣) العمل على صيغة سياسية فلسطينية خاصة في لبنان يتم رعايتها من الكل الوطني كسياسة فلسطينية عليا، من أجل مجتمع متضامن متكافل للعناية بأوضاع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، ويتفرع عنه لجان شعبية موحدة تجمع المؤسسات في جميع المخيمات من ذوي الاختصاص ورجال أعمال لمتابعة التطورات وتقدير الاحتياجات اليومية لأبناء الشعب الفلسطيني.
لعل وعسى أن يبدد اوكسجين الوطنية الفلسطينية سموم التوطين وملحقاته من كراهية وعنصرية واستنسابية، حين يصبح الوطن عنوان المخيم وهويته، وكواجب لا يُعلى عليه ولا يُستبدل ببديل أو بتوطين أو بجنسية أو وطن بديل، بل حقيقة تكتب بالدم. لذلك يفرض الجدية الأكثر في التعامل مع قضية بهذه الرفعة والنبل والإنسانية، والتمسك بحق اللاجئين في العودة وضمن استراتيجية وطنية فلسطينية لبنانية عربية، وقبلها حل الانفصام السياسي بين تأكيد عدالة القضية ونفي العدالة عن أبنائها!
* قيادي فلسطيني
Leave a Comment