أنطوان حداد*
حسناً فعل نواب التغيير بطرح مبادرتهم الرئاسية.
من دون إسراف في التوقعات والانتظارات، ثمة دور مهم يمكن أن تؤديه هذه المبادرة، سواء على الصعيد المبدئي أو على الصعيد العملي.
على الصعيد المبدئي، البعد الأهم هو تصويب النقاش، ولا سيما الممارسة، حول معنى الاستحقاق الرئاسي وطبيعة المرحلة وتحدياتها، ودور الرئيس ووظيفته ومهامه والمواصفات التي يجب أن يتحلى بها تبعاً للمرحلة. ولا تقل أهمية، مبدئياً كذلك، المساهمة في استرداد هذا الاستحقاق من كواليس الغرف المغلقة، التي تتداخل فيها مناورات الخارج مع صفقات الداخل، وتقريبه قدر الإمكان إلى مكانه الدستوري والطبيعي، أي إلى ملعب النواب والكتل البرلمانية وتحت أنظار الرأي العام.
على الصعيد العملي، المهمة تبدو أكثر تعقيداً، إذ هي تولي لنواب التغيير دوراً فريداً وإلى حد ما مفتقداً اليوم، هو إيجاد أرضية سياسية مشتركة قد تسمح بانتخاب رئيس، يكون فعلياً لكل اللبنانيين كما ينص عليه الدستور، وخارج الاصطفاف الاقليمي، ومن ضمن مسار إصلاحي، وذلك لوقف الانهيار وبدء الخروج من الأزمة. هذه أولوية وطنية تتطلب بالطبع قدرة على التواصل مع الجميع، من دون قيود أو أثقال، قدرة لا تمتلكها في الداخل اللبناني اليوم إلا قلة، منهم نواب التغيير.
إذا وضعنا جانباً المبادرة وما قد ينتج عنها، السيناريو الأكثر ترجيحاً حالياً هو انقضاء مهلة الشهرين الفاصلة عن نهاية ولاية الرئيس ميشال عون من دون انتخاب رئيس جديد للجمهورية. ويستند هذ الترجيح إلى التوازن السلبي القائم بين التحالف الحاكم بقيادة حزب الله ومعارضيه، كما إلى التناقضات الصعبة التذليل بين أطراف الفريق الحاكم. حتى لو تم فرضاً تذليل هذه العقبات، معركة رئاسة الجمهورية بالنسبة للتحالف الحاكم لن تكون أبداً بسهولة معركة رئاسة مجلس النواب منذ أشهر، حيث يحظى حزب الله وحلفاؤه بـ”ميزة طبيعية” تتمثل باحتكار التمثيل النيابي الشيعي الذي تنبثق منه حكماً رئاسة المجلس. رغم هذه الميزة، هو بالكاد استطاع تأمين 65 نائباً للرئيس نبيه برّي.
أمّا بالنسبة لرئاسة الجمهورية، فإلى مهمة تجميع أصوات 65 نائباً، ثمة حاجة إلى إقناع 86 نائباً بحضور جلسة الانتخاب، أي جلسة، أكانت الجلسة الأولى أو الثانية أو غيرها، ذلك بعدما أمعنت قوى 8 آذار منذ 2007 بفرض هذه القاعدة التعسفية في تفسير المادة 49 من الدستور.
لا يُعتقد أن القوى المعارضة لسلطة حزب الله جاهزة اليوم للتخلي طوعاً عن ميزات هذه القاعدة، إذا آن أوان اللجوء إليها، رغم أن الوضع على ضفة هذه القوى ليس عموماً أفضل حالاً. فالأكثرية الدفترية المناهضة لخيارات الحزب لا قيادة لها ولا رابط عضوياً بين مكوناتها ولا أفق موضوعياً لتجميعها على أجندة الحد الأدنى، ولو على برنامج ذي نقطة وحيدة تقتصر على إسم الرئيس المقبل. جلّ ما تسعى إليه حتى الآن هو إقامة جدار عازل يمنع وصول رئيس من طينة 8 آذار.
عموماً، عند توازن القوى تلجأ الأطراف المتصارعة إلى الحسم بالتصويت، لكن النظرة التي يتشاركها كل الأطراف اللبنانيين إلى أهمية موقع الرئاسة، والانقسام العامودي المزمن فيما بينهم حول الخيارات الوطنية والمجتمعية الأساسية لا تتيحان الاحتكام إلى قواعد المنازلة الديموقراطية العادية، والتسليم بالأغلبية البسيطة التي يفرزها صندوق الاقتراع. إن الحصيلة الأكثر ترجيحاً لهذا التناقض البنيوي والتوازن السلبي هي الانسداد.. ما لم يطرأ مستجد يساعد على تعديل قواعد اللعبة.
مع تبدل موازين القوى، قد ينشأ لدى حزب الله سؤال يتعلق بالخيارات المتاحة والمفاضلة بينها. لماذا قد يرغب حزب الله بتكرار سيناريو 2016؟ ما الذي قد يدفع بالحزب إلى إهدار جزء من رصيده السياسي، وربما غير السياسي، لإيصال رئيس لا يملك أي ميزة تفاضلية سوى تقديم الطاعة والولاء الاستراتيجي للحزب؟ السؤال هنا لا يقتصر على الوريث السياسي للرئيس الحالي، بل يطال جميع المرشحين المعلنين من فريق حزب الله، بمن فيهم أولئك الذين يبدون اعتدالاً في المظهر. “النموذج الرئاسي” الذي يجسده هؤلاء تعرّى في 17 تشرين 2019 ثم في انفجار 4 آب 2020، وترافق مع تعريته إفلاس الخزينة وتدمير الإدارات واستنزاف القطاع المصرفي وتعطيل ماكينة الاقتصاد، وإيصال النظامين الاقتصادي والسياسي إلى حافة الهاوية. هو بالتالي لم يعد يصلح، بكل مرشحيه، لتدبير حوائج وتحديات 2022.
هل يمكن لهذه الفرضية أن تشكل نافذة اختبار وبحث مع الحزب، كبديل عن الفراغ الرئاسي شبه المحتوم الذي نتّجه اليه في 31 تشرين الأول؟ أم يؤثر الحزب التخفف رسمياً من أثقال “العهد الرئاسي القوي” قبل الانتقال إلى البحث في خلافته؟ أم يطغى لديه عنصر المكابرة، وانتظار أيام أفضل، وهذا ليس غريباً أبداً عن ثقافته السياسية؟ أو تختلط أوراق واستحقاقات الداخل اللبناني مع حسابات واعتبارات المحيط الإقليمي، فيما الجمهورية الإسلامية، التي هو جزء عضوي منها، تخوض أدق، وربما آخر، معاركها الديبلوماسية مع المجتمع الدولي؟
في خضم كل هذه الأسئلة والتعقيدات، هل تفلح مبادرة نواب التغيير، بما يملكون من تفويض شعبي مستمد من انتفاضة 17 تشرين ونتائج انتخابات 15 أيار ومن مسافة إيجابية مع جميع الأفرقاء، بفتح كوّة في جدار الأزمات؟
*نشرت في الزميلة المدن الالكترونية يوم الإثنين الموافق 2022/09/05
Leave a Comment