زكي طه
على ايقاع تصاعد الانهيار المالي وشلل مؤسسات الدولة وأجزتها وقطاعاتها الخدماتية، ووسط احتدام الصراع وارتفاع حدة السجال السياسي حول تشكيل الحكومة، وصيغة إدارة الفراغ الرئاسي مع نهاية العهد الحالي، والحكومة التي ستتولى صلاحيات رئاسة الجمهورية. من الواضح أن غالبية الكتل النيابية تتصرف على قاعدة أن رئيساً جديداً للجمهورية لن ينتخب خلال المهلة الدستورية التي بدأت مطلع الشهر الحالي، وأن الاستحقاق الرئاسي مؤجل إلى أمد غير منظور. الاسباب كثيرة ومتنوعة. أما الذريعة فهي عدم وجود اكثرية نيابية باستطاعتها تأمين النصاب لجلسة انتخاب رئيس جديد.
أما سجال قوى السلطة حول مواصفات الرئيس العتيد، فأكثره للتعمية على الوضع القائم، وللتغطية على عجز تشكيلاتها عن ايصال اي من مرشحيها. يؤكد ذلك ارتباط الاستحقاق الرئاسي بما ستؤول له اوضاع المنطقة في ضوء توقيع الاتفاق النووي مع النظام الايراني من عدمه، ومعرفة حصة لبنان من التسويات لأزماتها المفتوحة والمتفجرة وموقعه منها، وانعكاسات هذا الأمر على توازنات القوى المحلية، وطبيعة أدوارها ومواقعها في أعادة تكوين السلطة المحلية، وارتباطات قواها وضماناتها الخارجية الدولية والاقليمية.
وعليه، فإن العنوان الرئيسي للنزاع بين أهل الحكم يدور راهناً حول إدارة الفراغ الرئاسي، وتوازنات الحكومة التي يقع على عاتقها هذا الدور، وموقع العهد وتياره مع نهاية العهد وفراغ الموقع. بين حكومة يطالب العهد بتشكيلها، أو تعويم الحالية بعد تعديلها وفق شروط العهد المرفوضة من قبل الرئيس المكلف المحتضن من رئيسي المجلس النيابي والحزب الاشتراكي. في وقت يحاول فيه مفتي الجمهورية تجميع نواب السنة لتغطية ودعم رئيس الحكومة في معركته مع العهد وتياره، سواء حول صلاحياته الدستورية، أو بشأن تولي حكومة تصريف الاعمال التي يرأسها مهام الرئاسة الأولى. يجري ذلك في موازاة أداء محايد يتمثل بتكرار الدعوة لتشكيل الحكومة من قبل حزب الله المشغول باستعراض قوته في سياق مفاوضات ترسيم الحدود البحرية مع العدو الاسرائيلي، التي جرى ربطها اميركياً بمصير الاتفاق مع ايران. أما أولويات القوات اللبنانية فهي محصورة بتسويق قائدها مرشح مواجهة وتحدي يضاف إلى جملة مرشحي قوى السلطة من مواقع الانقسامات الاهلي المنفلتة.
والخلاف مع العهد وتياره لا يقتصر على صيغة تأليف الحكومة وتوزيع الحصص فيها، بل يتعداها ليطال دستورية تولي حكومة تصريف الاعمال تلك الصلاحيات ورفضهما التسليم لها بهذا الدور، والتهديد بخيارات تصعيدية من قبلهما. أما الغاية الفعلية من شروط رئيس الجمهورية وتياره بشأن الحكومة فهي تنفيذ خطة العهد ومساعيه لتوظيف الموقع الرئاسي لضمان دور تياره السياسي وحماية مواقعه الحالية، ومتابعة محاولاته اليائسة لتوريثه رئاسة الجمهورية وتكريسه ممثلاً لحقوق المسيحيين في اطار نظام المحاصصة. وفي هذا السياق تتوالى الخيارات اللادستورية التي يجري التلويح بها، والتي تبدأ من بقاء الرئيس في القصر، إلى سحب التكليف وتشكيل حكومة رئاسية، بذريعة عدم الوقوع في الفراغ الرئاسي والحكومي في آن، مروراً باستقالة وزراء التيار لتعطيل عمل الحكومة والطعن بما ستقوم به. ولا تنتهي مع تهويل قادة التيار بالتصعيد في الشارع والتجييش الشعبوي والضغط على قوى الطائفة لخوض معركة الدفاع عن صلاحيات الرئاسة المسيحية بتغطية من مرجعيتها الدينية.
مقابل ذلك كله وخلافاً للسائد بين أهل الحكم واطراف السلطة بشأن الاستحقاق الرئاسي وتشكيل الحكومة، استطاع تكتل “نواب التغيير” تجاوز الارباك الذي رافق بداية تجربتهم بعد فوزهم في الانتخابات النيابية الأخيرة. ونجحوا في اعداد واطلاق مبادرتهم السياسية الانقاذية في مواجهة سياسات التعطيل والفراغ المستدام قبل العهد الحالي ومعه.
تنطلق مبادرة تكتل نواب التغيير من اعتبار انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلال المهلة الدستورية، مدخلاً لمسيرة الانقاذ من الانهيار، والخروج من دائرة الفراغ في آن، وهي تشكل محاولة لفتح مسار معاكس في مواجهة السياسات والممارسات المعتمدة والمتعمدة من قبل أهل الحكم واطراف السلطة، من أجل وضع حد لنهج التعطيل وتسعير صراعاتها وتبادل الاتهامات التخوينية فيما بينها، التي تؤدي إلى استمرار الفراغ وتصعيد الانهيار، مما يضع مصير البلد امام خطر الانفجار الكبير والدخول في المجهول.
لا تكتفي المبادرة بتعريف علاقة اصحابها بالوطن وناسه وانتسابهم إلى قضاياهم وتطلعاتهم من موقع المواطنة، ولا بتحديد الموقع والدور المسؤول الذي يرشحون انفسهم له. كما لا تتردد في تحميل منظومة السلطة المسؤولية الكاملة عن الانهيار، وعن أزمات البلد. إضافة إلى مساهمة قواها في تحطيم سيادة الدولة على جميع الصعد، والعبث بعلاقات لبنان العربية والخارجية، وزجه في محاور الصراع الاقليمي. كذلك لا تغفل المبادرة، دور قوى السلطة ومسؤولياتها عن تفكك مؤسسات الدولة واداراتها وتشكيل دويلات بديلة، والدفع بأجهزتها لاستباحة العدالة وحقوق الانسان وتعطيل القوانين، في موازاة التسبب بالانهيار الاقتصادي والمالي، وهدر موارد البلد ونهب اموال اللبنانيين، هذا عدا انفلات الازمات الاجتماعية على نحو غير مسبوق في تاريخهم.
ولذلك تدعو المبادرة إلى اطلاق مسار جديد يستهدف استرداد الدولة، وإعادة تكوين السلطة، وتطبيق الاستحقاقات الدستورية وفي طليعتها انتخاب رئيس جديد للجمهورية، باعتباره المدخل للحل الوطني، بعيداً عن انتظار التسويات بين اطراف السلطة أو من الخارج. لذلك تشدد المبادرة على أولوية انتخاب رئيس للجمهورية يلتزم بالدستور ويعمل على تطبيقه وفق آلياته. ولأنها لا تستسهل الأمر، فإن المبادرة ترفض الاصطفافات الطائفية والمعادلات الظلامية التي تؤدي إلى التحلل والزوال، كما تدعو إلى تضافر الجهود، والتخلي عن الفئوية والالتزام بالدستور في سبيل الخروج من الهاوية.
ومن موقع المسؤولية الوطنية تؤكد المبادرة على أن يكون انتخاب رئيس جديد استحقاقاً لبنانيا بحتاً، وضمن المهل الدستورية. أما مواصفات الرئيس فهي لا تخرج عن صفات رجل الدولة المنفتح الذي يحترم الدستور، ويؤمن بدولة المؤسسات والمواطنة والمساواة والحريات والعدالة الاجتماعية، وأن يكون لديه رؤية وتوجه اقتصادي واجتماعي يتسم بالفعالية والعدالة ضمن الاقتصاد الحر. كما يحافظ على استقلال لبنان ووحدته وسلامة اراضيه، ويلتزم بانتماء لبنان العربي وعدالة القضية الفلسطينية وعلاقاته العربية والدولية. ولذلك ترى المبادرة ان الرئيس معني باستكمال تطبيق دستور الطائف وتصويب ما شابه من أخطاء، مدخلاً للبحث في امكانية تطويره وتحديثه، على نحو يعبر عن مصالح وطموحات الكتلة التاريخية المجتمعية العابرة للطوائف والمناطق، والتي تتشكل من غالبية اللبنانيين.
وكي تتحول المبادرة إلى مسار متنامي الخطوات، لا بد من تأطير القوى المجتمعية القادرة على صياغة البديل، مما يتطلب سلسلة مشاورات شعبية وسياسية مع الاحزاب والمجموعات والشخصيات التي تتوافق مع أهدافها، في سبيل تكوين قوة ضغط شعبية فاعلة لفرض انتخاب رئيس للجمهورية. رئيس باستطاعته وقف الانهيار والقطع مع الفراغ المستدام، والمساهمة في فتح مسار انقاذي للخروج من قعر الهاوية، في مسيرة التغيير الصعب.
في مواجهة ما آلت إليه أحوال البلد وامام حشد المخاطر الزاحفة، تبدو المبادرة الخيار الاكثر جدية، الذي يستحق التأييد كمشروع سياسي انقاذي، كما يستدعي تضافر كل الجهود في سبيل تفعيل آلياتها وتطوير مضامينها وتحشيد القوى في اطارها، ومعها كل الفئات المجتمعية صاحبة المصلحة في وقف الانهيار والخروج من نفق قوى السلطة المظلم، وسياساتها التدميرية والحفاظ على البقية الباقية من مقومات الكيان والدولة والمؤسسات ومن حقوق اللبنانيين في الحياة الكريمة.
Leave a Comment