سعيد طانيوس/ موسكو
عندما سُئل يفغيني ريغوجين، مؤسس وزعيم الشركة العسكرية الروسية الخاصة “فاغنر” في مايو 2023، عما إذا كان خائفًا من الموت؟ أجاب الرجل المقدام الذي أسس إمبراطورية من المؤسسات الشرعية وغير الشرعية في العالم على الفور: “ليس عليك أن تنظر إلى الوراء عندما تموت، فكلنا نموت في وقت ما”.
لذلك سادت بعد مقتل بريغوجين وأركان شركته العسكرية الخاصة في حادث تحطم غامض لطائرة نقل مدنية كانت تقلهم يوم 23 أغسطس، من العاصمة الروسية موسكو إلى مدينة سانت بطرسبورغ التي ولد وترعرع فيها، مقولة تحمل الكثير من السخرية المآساوية:”أنه إذا تبين أن تحطم طائرة بريغوجين ليس من تدبير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فربما يكون ذلك فقط لأن أحداً سبقه إليه”.
لقد أحب الروس دائماً الشائعات والمؤامرات القائمة على افتراض أن الأخبار الرسمية يتم تزييفها بعناية من قبل الكرملين، لذلك، ليس من المستغرب أنه بعد ساعات قليلة من التقارير الأولى عن تحطم الطائرة التي كان يركبها يفغيني بريغوجين، انتشرت في روسيا وبيلاروسيا شائعات كثيرة عن هذا الرجل الذي لم يحصل على شهادات أكاديمية وعلمية عالية، ولا على نياشين وأوسمة حكومية، بل على اهتمام الناس العاديين أينما حلّ وصرّح واتجه بقواته وميليشياته وأمواله التي جمعها من تحت الصفر.
ومن هذه الشائعات أن بريغوجين لم يكن على متن الطائرة المنكوبه وقد زيف موته لكي يختفي. أو ربما يحتجز الرئيس فلاديمير بوتين الآن بريغوجين في سجن سري. أو أن الأوكرانيين، الذين قهرهم بريغوجين في مدينة باخموت بمرتزقته فجروا الطائرة لكي ينتقموا منه ومن أركان حربه، ولا سيما الجنرال دميتري أوتكين الذي قتل معه.
بالنسبة للروس الذين يتحدر من صفوفهم بريغوجين، والبيلاروس الذين استقبلوا “طباخ بوتين” وجزء من قواته عقب تمرده على القيادة العسكرية الروسية في 23 يونيو الماضي، لا شيء يبدو مستحيلًا مع هذه الشخصية الكاريزمية العصامية: فهو مبتز بارع، ومقدم خدمات غذائية لجيوش رهيبة وقادة كثر، وأمير حرب شرس جدا، وصديق بوتين الذي أرسل مجموعة ميليشيات فاغنر في مسيرة جريئة إلى موسكو في يونيو الماضي لتصفية حساباته الكثيرة مع القادة العسكريين في وزارة الدفاع الروسية.
ليس هناك نقص في الأشخاص والشخصيات الذين أرادوا اغتياله وقتله ورغبوا به واستعجلوه اليوم قبل الغد، بما في ذلك نفس القادة العسكريين الروس والأوكرانيين أو المتمردين الأفارقة والسوريين الذين تعرضوا لهجوم من قبل مرتزقته. ولكن كما هي الحال عادة مع الفظائع التي ترتكب في روسيا ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، فإن حادث تحطم طائرة بريغوجين ربما كان على وجه التحديد ما يبدو عليه الأمر في الوجدان الشعبي على الأقل: اغتيال قائد عصامي متشدد ومتطرف في مواقفه على يد حاكم لا يرحم ولا ينسى الإساءة. قد لا يتم إثبات ذلك أبدًا؛ وربما يقرر بوتين تكريم بريغوزين بعد وفاته باعتباره وطنيا، أو على الأقل إلقاء اللوم على الأشرار المفضلين لديه، “الفاشيين” الأوكرانيين والغرب المخادع في مقتله.
بوتين يعرب عن تعازيه!
وهكذا وبعد مضي يوم كامل على مصرع بريغوجين ورفاقه، أعرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن تعازيه لأسر ضحايا حادث تحطم الطائرة التي كان على متنها مؤسس مجموعة فاغنر في مقاطعة تفير الروسية.
وقال بوتين:
1-: بريغوجين كان رجلا ذا مصير صعب ولكنه كان موهوبا.
2-: “فاغنر” ساهمت بشكل فعال في مكافحة النازية بأوكرانيا ولن ننسى هذا أبدا.
3-: لجنة التحقيق بدأت تحقيقها في حادث تحطم الطائرة، وسنكمله حتى النهاية.
4-: عرفت بريغوجين منذ فترة طويلة جدا، منذ بداية التسعينيات، لقد ارتكب أخطاء، ولكنه حقق نتائج ملموسة لنفسه وللقضية الوطنية المشتركة.
5- كان رجل أعمال موهوبا ولم يعمل فقط في بلدنا، بل عمل خارج حدود بلدنا، وفي إفريقيا بشكل خاص وحقق نتائج مهمة.
لكن ومع أنه حتى الآن، يميل معظم المراقبين إلى الاعتقاد أن الأدلة والدوافع والوسائل تشير إلى وقوف بوتين وراء مصرع بريغوجين الغامض، وأنه بموجب المنطق السائد للحكم الدكتاتوري والتجارب المماثلة في روسيا، لم يكن أمام بوتين أي خيارآخر غير التخلص من هذات الشخص المزعج وغير المريح، إلا أن العارفين ببواطن الأمور يميلون إلى الاعتقاد أن عقل بوتين الاستخباراتي أذكى وأكبر من أن يقدم على هكذا عملية اغتيال مفضوحة سيتم اتهامه بها فورا وتلبيسه إياها دون الحاجة إلى أي أدلة وشواهد.
فعلى الرغم من أن بريغوجين هو الشخص الوحيد الذي تمرد عسكريا على بوتين منذ وصوله للحكم قبل 23 عاما، إلا أن هذا الطباخ الذي يملك ذكاء فطريا، حاول إظهار الولاء الكامل للرئيس، حتى عندما أمر قواته ببدء “مسيرة من أجل العدالة” إلى موسكو في يونيو/حزيران الماضي، كما أنه لم يدل ولا بتصريح واحد ضد بوتين شخصيا، ولا كان تمرده تمردًا مفتوحًا ضد بوتين، مع أن أول رد فعل علني للرئيس الروسي كان التحذير الشديد اللهجة، حين أعلن دون ذكر اسم بريغوجين، قائلا: إن أولئك الذين أعدوا التمرد “خانوا روسيا”. وفي معجم بوتين، عقوبة التمرد هو الحكم بالإعدام!.
يقول متهمو بوتين بالوقوف وراء اغتيال بريغوجين، لقد نفذ رجل الاستخبارات المحنك كل ما تلا ذلك بنفس المكر الذي أبقاه في السلطة لأكثر من ثلاثة وعشرين عاما. وسمح للقائد الميداني بالمغادرة إلى بيلاروسيا بعد التمرد، وأسقط التهم الرسمية الموجهة إليه ودعاه إلى محادثة لمدة ثلاث ساعات في الكرملين، ثم منحه حرية الحركة في روسيا. لذلك يبدو أن بريغوجين الذكي ولكن البسيط والطيب، توصل إلى نتيجة مفادها أن الرجل الآتي من كواليس استخبارات “كي جي بي” قد غفر له. وادعى أنه حضر القمة الروسية الإفريقية في سان بطرسبرغ، رغم عدم وجود دليل قاطع على حضوره هناك. ثم، قبل يومين من تحطم الطائرة، نشر بريغوجين فيديو تجنيد جديد لمجموعة فاغنر، يُزعم أنه تم تصويره في أفريقيا، فعلى خلفية حقل خال، ظهر بريجوجين بزي رجل كوماندوس كامل، والذي كان يفضله دائمًا في مقاطع الفيديو التي ينشرها.
قال بصوته القوي الهادر: “نحن نعمل. درجة الحرارة 50 زائد كما نحب. تجري فاغنر عمليات عسكرية وعمليات استطلاع وبحث لجعل روسيا أعظم في جميع القارات، وإفريقيا أكثر حرية”.
وبعد هذا الاستعراض القوي والمثير، يبدو أن المتربصين ببريغوجين اتخذوا القرار النهائي باغتياله وحذفه نهائيا من المشهد السوريالي. فبعد شهرين بالتمام والكمال على قيادته حركة التمرد ضد قيادة الجيش الروسي وبدء زحفه على موسكو، تحطمت طائرة بريغوزين المحببة التي كان يستخدمها كثيرًا، ووفقًا للمعلومات المتداولة، فإن هذه الطائرة هي نفس الطائرة التي طار بها إلى بيلاروسيا بعد التمرد الفاشل في يونيو الماضي.
وأفاد شهود عيان بوقوع انفجار قبل أن تهوي الطائرة بسرعة فائقة من علو شاهق إلى الأرض، مما قد يعني أن الطائرة أسقطت لإما بواسطة صاروخ مضاد للطائراتتم إطلاقه عليها من الأرض،إما بانفجار عبوة ناسفة في داخلها، وهذا ما يؤكده تناثر حطامها على مسافة واسعة، لدرجة أن جناحها الأيمن وجد على بعد نحو أربعة كيلومترات عن مكان سقوط هيكلها.
والنتيجة التي تبدو حتمية هي أن مصير بريجوجين شخصيا قد حُسم نهائيا بمقتله غيلة أثناء توجهه إلى المدينة التي ولد وترعرع فيها وأحبها حتى الثمالة. وأياً كان سبب هذه الكارثة الجوية ومن يقف وراءها وأسبابها ودوافعها، فمن المؤكد أن السؤال المطروح في اليوم التالي لرحيل بريغوجين، يتعلق بمصير آلاف العسكريين الذين تضمهم فاغنر والذين يبدو أنهم تيتموا بمقتله وصاروا متروكين لمصيرهم في أماكن انتشارهم الواسعة، بدءا من أفريقيا مرورا بسوريا وصولا إلى بيلاروسيا وروسيا نفسها.
سيناريوهات مصير فاغنر بعد بريغوجين!
هناك ثلاثة سيناريوهات محتملة لمصير مقاتلي فاغنر بعد مقتل بريغوجين:
السيناريو الأول: هو انبثاق قيادة جديدة لهذه الميليشيات من بين صفوف القيادات الوسطى، تتولى قيادتها وإكمال مسيرتها، بتمويل سرّي من الكرملين ومن عشرات وربما مئات الشركات التجارية التي تركها بريغوجين والمنتشرة ليس فقط في روسيا وحدها، بل وفي العديد من الدول الأفريقية وسوريا وغيرها من الدول، وهذا السيناريو محتمل جدا لأن روسيا في حالة حرب مستمرة مع أوكرانيا والغرب الجماعي من ورائها، وهي بحاجة لهذه القوة العسكرية المؤازرة، التي يمتلك عناصرها خبرات قتالية كبيرة اكتسبوها ميدانيا في سوريا وأفريقيا وأوكرانيا، كما أن موسكو بحاجة لقوات فاغنر وانتشارها الواسع في أفريقيا لدعم منافستها هناك للقوى الاستعمارية الغربية السابقة وعلى رأسها فرنسا، على اعتبار أن ضباط فاغنر صاروا يمتلكون خبرات وعلاقات واسعة في القارة السمراء.
السيناريو الثاني: ضم عناصر فاغنر الذين ما زالوا على الأراضي الروسية لصفوف الجيش الروسي وفق المخطط الذي لم يوافق عليه بريغوجين وأركانه قبيل تمردهم في يونيو الماضي، وكذلك ضم نحو خمسة آلاف عنصر من عناصر فاغنر المنتشرين على أراضي بيلاروسيا للجيش البيلاروسي، ليكونوا كقوة دعم وصدم في مواجهة أي غزو للأراضي البيلاروسية من قبل قوات المعارضة التي يجري تدريبها في الدول المجاورة، لا سيما في بولندا ودول البلطيق، وتقديم دعم لوجستي من قبل الحكومة الروسية للعناصر المنتشرين في أفريقيا ليكونوا ذراعا سرية لها هناك، لكن دون أي ارتباط رسمي معلن بهم وبتحركاتهم وخططهم.
السيناريو الثالث: حلّ شركة فاغنر كهيئة قانونية وتصفية ممتكاتها وأسلحتها، وإرسال عناصرها إلى منازلهم أو تركهم لمصيرهم، وهذا أخطر السيناريوهات المفترضة، لأن هؤلاء تمرسوا في القتال والأعمال الحربية، ولم يعد من السهولة بمكان إعادتهم إلى الحياة المدنية أو إلى المصانع والأعمال الزراعية، التي يعتبرون أنها لا تليق بهم ولا يمكن مكافآتهم على تضحياتهم التي قدموها لبلادهم في سوريا وأفريقيا وأوكرانيا بهذه الطريقة المذلة، لذلك قد يتحولون إلى قوة شغب واضطرابات وقلائل، على غرار ما حصل مع المقاتلين العرب الذين عادوا من افغانستان بعد انهاء الجهاد هناك، ليقضوا مضاجع حكام الدول التي انطلقوا منها والعالم بأسره.
تعقيب
نظرًا لتاريخ بريغوجين المثير والمظلم وغير العادي، فمن المحتمل جدًا أن المزيد من المفاجآت غير المتوقعة حول حادث مقتله لم تنكشف بعد. ولكن إذا اتضح أن هذا الحادث الغامض ليس من تدبير بوتين لأنه أذكى من ذلك، فمن المرجح أن يكون ذلك فقط لأن شخصا ما قد سبقه إليه، سواء من الاستخبارات العسكرية الأوكرانية أو الروسية اللتين تملكان من الحقد والغضب على بريغوجين ما يكفي لقتله وصرعه عشرات المرات.
لقد صار من الواضح منذ فترة طويلة، أن الخيانة أمر لا يغتفر في روسيا بوتين، لكن كل الاتهامات التي سيقت ضد هذا الضابط الاستخباراتي السابق لم تجد ما يثبتها ويؤكدها على نحو لا يقبل الشك ولا الجدل، فمن البولونيوم المشع الذي استخدم لقتل المنشق ألكسندر ليتفينينكو، وغاز الأعصاب نوفيتشوك الذي استخدم في محاولة اغتيال سيرغي سكريبال وابنته يوليا في بريطانيا، إلى تفجير سيارة الزعيم الشيشاني سليم خان يندربايف في قطر، إلى تسميم المعارض الروسي ألكسي نافاني في سيبيريا، بقيت كلها ملفات اغتيال معلقة على الشبهات والاتهامات، ولم تتوصل التحقيقات فيها إلى أدلة دامغة تدين مرتكبيها الفعليين وتقمهم للعدالة، وعملية اغتيال بريغوجين وقادة أركانه ستكون واحدة من هذه الجرائم التاريخية التي ستظل غامضة ومعلقة حتى إشعار آخر.
Leave a Comment