ثقافة

“ما ضاع سيظهر”

يوسف اللقيس

أحببت أن أستهل مقالي بإقتباس من هذا العمل العملاق لاحيطكم علمًا بما أنتم على وشك المثول أمامه.

★نولد في هذا العالم فنكون إما باحثين أو هاربين، أن تكوني هاربة هي نعمة خالصة، لكن أن تكوني باحثة فهذا لا يجلب سوى الألم !

ستفتحين كل باب وتدخلين فراغات مظلمة، وتقودك رغبة لاكتساب المزيد من المعرفة، حاولت التخلص من ألمك، لكنك ولّدت المزيد من الألم★

الغموض اصدقائي… ما هذه القوة التي تكمن في هذه الكلمة؟ ما هذا المحرّك الذي يدفعنا إلى الأمام مع أننا نرى النهاية شاخصة أمامنا وضوح الشمس في كبد السماء، يقولون إن الإنسان عدوّ ما يجهله و لكن لماذا نحن دومًا ننجذب إلى كل شيء مجهول بالنسبة لنا؟ هل لرغبتنا في استنباط ما هو غير معلوم؟ إن الإنسان بطبعه فضولي لأقصى الحدود ومن الممكن أن تكون هذه لعنته ودافعه في الحياة لطلب المزيد في آن معًا.

الحقيقة لها أثمان غالية، ومن يقرع بابها يجب أن يكون على استعداد لتحمل هذه الكلفة التي قهرت العديد من البشر وكان السقوط مصير الكثيرين.

هل سعينا نحو اللاعودة والحصول على أجوبة يستحقان كل هذا؟

كيف أبدأ ومن أي باب يجب أن أدخل للتحدث عما عشته من ثقل نوعي قصصي ومحتوى مخيف وعميق كنتُ بحاجة ماسة إليهما لأختبر مدى عشقي وهوسي الكبيرين لهذه العملاقة القاتلة التي تدعى “سينما”….

و لَكَم يُسعدني أن أبشركم بكمٍّ هائلٍ من فخامة النص ورهبة المادة المعروضة، التي سوف ترحب بكم وتستقبلكم من بداية الحلقة الأولى للمسلسل الألماني المنتظر “1899”، والذي أبصر النور في الشهر الأخير من هذه السنة، خصوصًا بعد أن صُعِقنا سابقًا بالتحفة الألمانية ايضًا  “”dark، التي حفرت عميقًا في وجداننا السينمائي والفكري، تحفة ضِعنا بين كهوفها الزمنية المقلقة لراحتنا والمفجّرة لمدى قوة تركيزنا وتحمّلنا، والممتحنة في ذات الوقت لقدراتنا في ربط الأحداث وتجميعها بهدف الحصول على أجوبة. كان مسلسل “dark” اصدقائي عبارة عن صوت صارخ في عالم الغموض لا يتكرر برأيي، وبالرغم من مدى إعجابي بهذا العمل الذي ينبثق من الذائقة السينمائية الرفيعة ذاتها، إلا أنه لا يقترب شبرًا واحدًا من ذهنية “dark” وعقليته السينمائية، ولا من أسلوب معالجته أيضًا.

وهنا لابد أن اعرّج على “dark”ولو أن كُتُبًا بكاملها لا تنصف إبداعه، ولكن من باب ربط العملين معًا فقط، فعتبي هنا على مسلسل “1899” لا يفسد للود قضية على الاطلاق، علامات إستفهام كبيرة وجمّة لا قرار لها مثُلنا أمامها في “dark” وقد كانت الأجوبة أكبر، مقدَّمة على نحوٍ فلسفي عملاق تصطاد الإنسان والحياة والموت في عجلة زمنية هي الأروع بنظري حتى هذه اللحظة.

وبالعودة إلى هذا المسلسل المولود من الرحم نفسه على أيدي المبدعين “يانتيه فريزه” و”باران بو أودار” ، لا يقلّ عمقًا وتيهًا لارواحنا الهشة، مشكلًا بذلك محنة لذاكرتنا وامتحانًا شاقًا وطويلًا. كيف لا ؟ وهو خير خلف لخير  سلف، وإن كنت هنا اتمنى أن يكون على قدر الذهول والعمق الفني والسردي الذي استحقهما “dark” بكل جدارة، ولكن هذا لا يقلل من مجهود رائع حاز عليه “1899” ويستحق المشاهدة والوقوف عنده مطولًا.

علامات استفهام واسئلة كبيرة تراودنا من الحلقة الأولى التي كانت حجر الأساس والداعم لعملٍ واعد وعميق، قُدِم لنا في موسمه الاول المؤلف من ثماني حلقات فقط دفعة واحدة، وبعد انتظار دام ثلاث سنوات تبدأ منصة نتفليكس عرض حلقات مسلسل “1899”، الذي يحمل توقيع المؤلفة والمُنتجة “يانتشي فريشي”، والمُخرج والمؤلف “بارون بو أودار”، صانعَي المسلسل الشهير ” dark”.

يضعنا مسلسل “1899” على عتبة باب مليء بالغموض خصوصًا إذا اقترنت بأحداث ليست بعيدة أبدًا عن أرض الواقع ، حيث قام العمل بتدعيم أرضيته على أساسات شائكة ومثيرة للجدل لم يتوصل العلماء حتى هذه اللحظة لأجوبة تغني من جوع كل متعطش وثائر للحصول عليها، يحمل العمل جرعة دسمة من الغموض والتشويق والإثارة من خلال أحداثه وقصته، ويعتبر أيضًا من أوائل الأعمال التليفزيونية التي استخدمت تكنولوجيا جديدة في التصوير والتنفيذ، وسيجد محبو حل الألغاز والبحث وراء معاني الرموز فيه أيضًا فرصة للبحث وفك الشيفرات المبهمة.

-نظرة فلسفية ضرورية لفهم المحتوى: لعلَّ من أشهر ما أخرج الفيلسوف اليوناني “أفلاطون” إلى النور هو أسطورة الكهف (Allegory of the Cave) التي تظهر في الكتاب السابع من الجمهورية، العمل الضخم الذي يبحث في أشكال الدولة المثالية وحاكمها المثالي الذي يكون فيلسوفًا في المقام الأول، يبرر “أفلاطون” إعطاء زمام الحكم للفلاسفة عبر دراسة مفصّلة للحقيقة والمعرفة، وقد وظَّف أسطورة الكهف في هذا السياق.

لا تدعوا علامات الاستفهام ترتسم على وجوهكم، والحيرة تنل منكم، وتطرحون عليّ سؤالكم المنطقي: “لماذا أحلتنا من عمل سينمائي يصنف بالغموض والخيال العلمي والدراما النفسية إلى اشهر ما كتب “أفلاطون” في الفلسفة”؟

ماذا تقول أسطورة الكهف؟: تصوِّر الأسطورة جماعة من الناس أمضوا حياتهم كاملة في كهف تحت الأرض مكبَّلين بالأغلال، رؤوسهم مثبَّتة وموّجهة نحو الجدار الذي أمامهم مباشرة، وتشتعل النيران من ورائهم، وتعكس على الجدار من أمامهم ظلال الناس والأشياء الموجودة في الخارج، وهذه هي الأشياء الوحيدة التي يراها المساجين ويتحدثون عنها معتقدين أنها الحقيقة.

لاحقًا يتحرر أحد المساجين من قيوده ويبدأ في استكشاف الكهف، في البداية يشدُّ النور انتباهه مسببًا له ألمًا في عينيه، ويبدأ تدريجيًّا في رؤية حال الكهف على نحو أفضل ويفهم منشأ الظلال التي انعكست على الجدار التي كان قد عدَّها حقيقية في السابق فيدرك أنَّها لم تكن إلا وهمًا، وأخيرًا ينطلق خارج الكهف إلى العالم الخارجي الذي تضيئه الشمس فيشعر بالدوار عند رؤيتها أول مرة، ومن ثمَّ يرى الواقع كاملًا.

حسنًا، بدايةً إن أسطورة الكهف لافلاطون احبائي هي ما بُني على أساسه هذا للعمل الضخم الذي عالج نظرية أفلاطون للحقيقة الحقيقية والحقيقة الخيالية، والحق الحق أقول لكم، بأن العمل نجح في إبهارنا ومعالجة فكرة وجودية لأشهر فلاسفة التاريخ البشري، في أسلوب آسر وجاذب يضج بعمق فلسفي في مدى قدرتنا على تقبل الحقيقة كما هي أم ندع لمشاعرنا أن تنسج لنا حقيقة أخرى مرضية لفكرنا البشري المحدود.

وما هو المعيار الذي يجب أن نستند عليه للتأكد من أن هذه التي أمامنا هي الحقيقة الحقيقية وليست الحقيقة التي سمحنا لطبيعتنا البشرية الضعيفة بخلقها؟

ولعلّ اقوى الاقتباسات التي تجسد هذا الطرح ناهيك عن النهاية الصادمة التي اعتبرها تجسيدًا صارخًا لأسطورة الكهف الافلاطوني والتي أود بشدة أن اتكلم عنها ولكني سامتنع عن ذلك حرصًا مني على عدم إفساد المتعة الكامنة في نهاية هذا العمل الأيقوني.

يقول الاقتباس: “عندما كانت أمك في سنك وجدت مقالًا عن قصة كهف “افلاطون” في مكتبي، من الواضح أنها كانت صغيرة على فهم الفكرة المجردة التي اقترحها “أفلاطون”. ومع ذلك قرأتها مرارًا  وتكرارًا، فكرة واحدة تحديدًا قلبت عالمها رأسًا على عقب… الفكرة بأن لمعرفتنا حدودًا وأنه لا يمكن أن نعرف إن كانت الأمور هي كما تبدو عليه فعلًا، نحن في سبات غير مدركين لطبيعة الاشياء الحقيقية.

في ليلة أتت الي وقالت: “إن كان ما يقوله أفلاطون صحيحًا، فكيف نعرف إن كان اي شيء حقيقيًا ؟ كيف نعرف أن الواقع الفعلي، لا يكون فعلًا خارج الحياة التي نعيشها؟.

كانت فكرة عظيمة لفتاة في سنها، نظرتُ إليها وسألتها: أليس هذا هو الرب؟ خالق واقعنا؟

فكرت في الامر للحظة ثم أجابت: إذًا العالم الذي يعيش فيه الرب حقيقي،  ونحن نعيش في ملعبه وحينها، من خلق الرب؟ هل يستمر ذلك إلى ما لا نهاية؟”

-قصة المسلسل: يحكي العمل عن سفينة بخارية وركابها، الذين جاءوا من خلفيات ثقافية وأعراق مختلفة، تسافر هذه المجموعة من المهاجرين على متن السفينة في رحلة من لندن إلى العالم الجديد وتحديدًا “نيويورك”، لكن مسار الرحلة يتغير بعد استقبال السفينة إشارة استغاثة من سفينة أخرى تحمل اسم “بروميثيوس”، ضلت طريقها في عرض المحيط وبسبب الفضول والرغبة في تقصي مصير السفينة المفقودة تنقلب رحلتهم إلى كابوس مرعب.

برأيي المتواضع تعتبر السفينة في هذا العمل صورة مصغرة عن أوروبا، ويحاول صناع المسلسل طرح سؤال عن مصير مجموعة كبيرة من الناس، يجدون أنفسهم مجتمعين في حيز واحد مع اختلاف ثقافاتهم ولغاتهم، وإن صحت الاستعانة باسقاطها على التغيرات التي شهدتها أوروبا في السنوات الأخيرة، ستكون صورة شبيهة لما يحصل على أرض الواقع مثل أزمة تدفق اللاجئين وصعود الأفكار اليمينية ومخاوف تفكك الاتحاد الأوروبي التي بدأت بخروج المملكة المتحدة من هذا التجمع.

هذه لمحة صغيرة عما ينتظرنا في هذا العالم المظلم، الذي لا يلبث أن يتحول الى كابوس يصعب الاستيقاظ منه بسهولة، نبدأ بقراءة متأنية للأشخاص على متن “بروميثيوس” وخلفيات كل منهم وعوالمهم الغامضة المكتنزة داخلهم، فهنا لا مجال للاختباء وراء الأقنعة المزيفة، ولا يمر وقت قصير حتى تبدأ هذه القوة الغامضة الضبابية بالكشف عن كل شيء مستور، اوليس عنواننا كان “ما ضاع سيظهر”؟ وبعد أن يلاحظ الجميع بانهم ليسوا المتحكمين بالرحلة ولا بالوجهة التي يعزمون على  الوصول إليها، يعلمون حينها بأن لا شيء بشريًا أو  مألوفًا للعقل من يضع النقاط على الحروف ويوزع الأدوار على الركاب هنا، بل هناك أمر فائق للطبيعة يمسك بزمام الأمور ويقول كلمته في كل صغيرة وكبيرة، أو إن صحّ التعبير هناك واقعٌ مركبٌ فُرِضَ عليهم، ليقف الإنسان بكل ذكائه وحنكته عاجزًا عن تفسير ما يحصل من اضطراب نفسي وتلاعب فيزيائي واضح على متن تلك السفينة.

سأكتفي بهذا القدر من الشرح خوفًا من إفساد متعة كبيرة تكمن وراء هذا العمل الأوروبي الضخم، الذي أحثُّ الجميع على استكشافه والغوص في اعماقه، واخصّ من يهوى بالذات هذا النوع من الأعمال التي تُحتِّم عليه مشاهدتها أكثر من مرة لفهم المحتوى بأكمله، خصوصًا ونحن مازلنا في الموسم الاول فقط، حيث أعلن القيّمون على العمل قبل صدوره بأنه سيكون مؤلفًا من ثلاثة مواسم، وهذا إن دل على شيء فهو يدل على أن هكذا اعمال ترسم خارطة طريقها مسبقًا، وليست بحاجة إلى أن تجسّ نبض الموسم الاول لترى إن لاقى النجاح في شباك التذاكر العالمي، فتعمد حينها للانطلاق إلى مواسم أخرى، (هذه الأخيرة يكون هدفها الربح في الباب الاول وليس تقديم مادة غنية و دسمة مهما كانت الظروف).

-هوامش:  جدير بالذكر أن مسلسل 1899، هو المشروع  الوحيد الذي منحه الصندوق الألماني للصور المتحركة  مبلغًا يقدر بـ 10 ملايين يورو كحد أقصى للتمويل، وحصل المسلسل على تقييم 9.2 على موقع IMBD بعد طرح الفيديو الدعائي له فقط وذلك قبل عرضه بحوالي شهر ورُشِح المسلسل قبل عرضه لجائزة Golden Frog، كأفضل إخراج وأفضل تصوير سينمائي أيضًا.

Leave a Comment