سعيد طانيوس
موسكو ـ 9 حزيران 2023
كشف تمرد تشكيلات ميليشيا “فاغنر” “Wagner”المسلحة يوم 24 حزيران\يونيو، بقيادة يفغيني بريغوجين، هزال الدوائر الموالية للسلطة في روسيا، وتهافت الحركات السياسية اليمينية واليسارية على حد سواء، وحنين المجتمع الروسي إلى الاستقرار والعدالة.
فبينما هرع عدد من كبار المسؤولين ورواد النخبة الروسية الحاكمة إلى المطارات ومكاتب السفر لمغادرة البلاد على وجه السرعة في ذلك اليوم، كانت البيانات الرسمية تصف تمرد فاغنر بأنه: خيانة، تآمر، خيانة عظمى، طعن في الظهر وما إلى ذلك، فيما التزمت النخب الإعلامية التابعة للكرملين طوال ساعات التمرد القليلة بصمت مطبق، على قاعدة”مع الواقف ريثما تنجلي المواقف”.
هذا التمرد البسيط الذي لم يكن مفاجئا للعالمين ببواطن الأمور، كشف ليس فقط هشاشة تركيبة الحكم في روسيا الجديدة، وانعدام وجود مؤسسات دستورية فعلية متوازنة ومستقلة وفاعلة في البلاد،بل فضح عدم تجانس الطبقة البرجوازية الحاكمة في روسيا وتضارب مصالحها، واحتدام الصراع المستمر بين مجموعات الرأسماليين ورجال الأوليغارشية الذين يشكلون في معظمهم، حاشية الكرملين وقاعدته وأركان حكمه.
فالبرجوازية الروسية التي تتشدق اليوم بتوجهها القومي، والتي تستخدم شعارات وطنية وتتغنى باستعدادها للدفاع عن الوطن، بدت في لحظة التمرد كمن أسقط في يدها، فراحت تتساءل عن كيفية الحفاظ على مواقعها، وتأمين مكان لها في النظام العتيد الذي قد يسفر عنه الحدث، وسبل التقرب من مرابع السلطة التي قد تنبثق نتيجة هذا الاضطراب.
الرأسمالية الروسية في حقيقة الأمر ليست عريقة ولا أصيلة، فمعظم نخبها اغتنت من النهب القسري المتسرّع للملكية السوفيتية الهائلة، من خلال ما يسمى الخصخصة. فلم تنشأ الرأسمالية الروسية وتتشكل وتطوّر قواعد عملها على مدى قرون مثل نظريتها ومنافستها الغربية، بل هي تشكلت على نحو هجين بين ليلة وضحاها. هي لا تزال تعيش فترة مراكمة رأس المال وإعادة توزيعه، حيث يكون التقرب من السلطة ومن كبار المسؤولين في الدولة شخصياً (سابقًا من يلتسين، واليوم من بوتين) المفتاح السحري للوصول إلى المال والثروة وتعزيز المصالح الخاصة.
لا يوجد أوليغارشيون نزيهون وصادقون في روسيا، ولا يمكن أن ينوجدوا كذلك، بطبائع الأمور، لأن من تمكنوا من نهب المال العام بواسطة الخصخصة من التسعينيات وحتى اليوم، هم أشخاص ذوو ماض إجرامي أو استغلالي أو ذوات ارتباطات خارجية مشبوهة.
الدولة البيروقراطية الروسية والمجتمع البورجوازي الروسي اليوم يتسمان بطابع مختلف عن الطابع السوفييتي بشكل لافت للنظر، بحيث لا يمكن تبرير أي مقارنات جادة في تقييم العملية العسكرية الخاصة الجارية في أوكرانيا، مع الكفاح الشعبي الصادق الذي خاضه الشعب السوفيتي في الحرب العالمية الثانية التي يسميها الشعب الروسي “الحرب الوطنية العظمى” ليس فقط من وجهة نظر طابعها الطبقي المختلف، ولكن أيضًا من وجهة نظر العقيدة الوطنية والهياكل الطبقية وظروف المجتمع نفسه.
بعد انكفاء التمرد خرج بوتين بخطاب تغنى فيه بتماسك ووحدة الشعب الروسي، وزعم أن هذا الأمر لم يسمح بنجاح التمرد. ومع ذلك، نظرت الغالبية الى تصرفات قائد التمرد بريغوجين بفضول وصل إلى حدّ الإعجاب، لأنهم اعتبروه شخصًا مقربًا من الرئيس ويتمتع بسمعة مقاتل شرس ضد النازيين ودفاعا عن الوطن، ولا يعرف الخوف أوالهوادة سواء في سوريا أم في أفريقيا وأينما تواجدت وقاتلت ميليشياته.
في الواقع، احتل مقاتلو فاغنر مدينة كبيرة (رستوف على الدون)، ومركزًا إقليميًا مع مقر أركان منطقة عسكرية بأكملها، دون قتال. وفي الوقت نفسه، لم ينبر أي جهاز رسمي واحد من قوى السلطة، بما في ذلك الأجهزة الأمنية – الحامية العسكرية، والشرطة، والاستخبارات ، والحرس الوطني وغيرها، وكذلك الإدارة المدنية، للدفاع عن سلطة الدولة، ولم يبد أحد أي مقاومة لهجوم مسلحي فاغنر. وتوغلت التشكيلات العسكرية لـ “فاغنر” بأرتالها المدرعة عدة كيلومترات في أعماق الأراضي الروسية باتجاه موسكو، ولم يحاول أحد بل لم يستطع أحد إيقافهم. ولم تنجح المحاولات الفردية لعرقلة الطوابير المتقدمة من قبل قوات الطيران (أظهر المسلحون بأسهم فأسقطوا بضع طائرات). من ناحية أخرى، ازداد الإقبال من قبل مسؤولين كبار من موسكو والمدن الكبيرة الأخرى على تذاكر الطيران إلى الخارج ازديادا كبيرا، مما أدى بطبيعة الحال إلى مضاعفة أسعارها.
وهكذا، أظهرت هذه الأحداث أن السلطة البرجوازية الحاكمة قادت البلاد إلى انحدار ليس فقط في الاقتصاد، ولكن أيضًا في الجيش وإدارة الدولة، وهذا، بالمناسبة، ما تحدث عنه بريغوجين وتكهن به. يجب أن نقول إن بريغوجين نفسه هو أيضًا أوليغارشي ذو ماض إجرامي، وقد جنى ملياراته بطريقة غير شفافة البتة. الآن بريغوجين كان يتنافس ببساطة مع الأوليغارشيين الآخرين من أجل الوصول أقرب ما يمكن إلى جبنة الحكم. وهو نفسه يدرك جيدًا أن كل شيء عمليًا في سياسة الدولة البرجوازية يتم تحديده فقط من خلال المصالح الاقتصادية، ببساطة، من خلال مبدأي الربح ومراكمة الثروة.
استندت المواجهة الطويلة بين بريغوجين والمسؤولين الكبار في القيادة العسكرية والسياسية للبلاد، والشركات الكبرى التي تقف وراء هذا الطرف لفترة طويلة، إلى انتقادات لأوجه قصور حقيقية، وللفشل في الإدارة، وعدم جهوزية الجيش والاقتصاد للحرب، ولسوء التقدير في خوض العملية العسكرية الخاصة، وللفساد على نطاق واسع، ولسياسة اختيار الكوادر الخائبة وللانحلال الأخلاقي في أعلى مستويات السلطة. هذه الحملة الدعائية، التي نُفِّذت علناً على الإنترنت وفي وسائل الإعلام التابعة لفاغنر، أثارت تعاطفاً كبيراً معها من قبل الناس وفي القوات المسلحة، على وجه التحديد، لأن تعفن النظام واضح ويشعر به الجميع.
كان من غير المربح والمريح أبدا للسلطات ترك بريغوجين يثير المزيد من الفضائح. لذلك، على الأرجح، لم تتم الاستجابة للدعوة التي أطلقها في مايو/أيار الماضي، نائب رئيس مجلس الدوما (البرلمان)، سيرغي نيفيروف، بالسماح له قبل التمرد بإلقاء خطاب في البرلمان، بعد نشر مقابلة طنانة تحدث فيها بريغوجين عن التجار و”النخبة” السياسية الفاشلة، رغم أن بريغوجين أعرب بنفسه عن استعداده لتوضيح الأمور والمواقف، لكن السلطات تعامت عن ذلك، واختارت استفزاز بريغوجين بمهارة ليحرك وحداته بدعوى العدل والإنصاف.
الأوليغارشي بريغوجين طالب بالعدالة، أولاً وقبل كل شيء، لنفسه، لشركته العسكرية الخاصة، ولكن ليس العدالة لجميع أبناء الشعب. وتميط دعوة بريغوجين إلى خصخصة جديدة للشركات التابعة للدولة تحت ذريعة فسادها، اللثام عن متطرف ليبرالي متسربل بزي مناضل وطني.
في الوقت نفسه، لم يذكر أي من المسؤولين في خطاباتهم ومناشداتهم أن وجود جيش مرتزقة خاص في البلاد أمر محظور بموجب القوانين السارية. وبالتالي، فإن تأسيس وعمل هذه الشركة الأمنية غير شرعي على الإطلاق، وأن السماح به وغض النظر عن خصخصة الأمن في البلاد، بتشجيع ودعم من هم في أعلى مستويات السلطة، شجع هذا الأوليغارشي ذي الماضي الإجرامي على التطاول على السلطة ورموزها. فقد تلقت وحدات وتشكيلات فاغنر أسلحة ثقيلة حديثة من الدولة – مدفعية ودبابات وعربات مدرعة أخرى وطائرات هليكوبتر … وبلغ التمويل السنوي للشركة العسكرية الخاصة، باعتراف الرئيس الروسي، 86 مليار روبل. على أي أساس، يا ترى؟ السؤال يجب أن يكون له جواب. فبينما كانت السلطات بحاجة إليه، كان كل شيء يجري وفقًا للقانون، والآن تحول القانون إلى هراوة قانونية ضده.
لا يمكن للسلطات الروسية، ولا سيما في شخص الرئيس بوتين، وللبرجوازية الروسية وممثليها بشخص أهل الدعاية البرجوازيين أن يعترفوا بأن البلد والجيش والحكومة والاقتصاد لم يكونوا مستعدين لمثل هذا الوضع. والأكثر من ذلك، أنهم لا يستطيعون الاعتراف بأي شكل من الأشكال بأن الانقلاب المضاد للثورة في الاتحاد السوفياتي والرأسمالية هما ما قاد روسيا والجمهوريات الأخرى إلى صراعات دموية فيما بينها، وفي النهاية، وما ألب الشعبين الشقيقين سابقا في روسيا وأوكرانيا أحدهما على الآخر في حرب دموية. الليبراليون والقوميون الليبراليون والانتهازيون والمغامرون، الذين دمروا بأيديهم أساس وحدة الاتحاد السوفياتي العظيم – الملكية العامة والاشتراكية والسلطة السوفيتية، يحاولون مرة أخرى إلقاء اللوم على لينين والبلاشفة، الذين يُزعم أنهم خلقوا هيكلا سوفياتيا فيدراليا متفجراً، – لا يريدون أن يلاحظوا أن هذا الهيكل قد صمد أمام اختبار الحرب العالمية ضد الفاشية الألمانية ورعاتها الإمبرياليين.
يحاول بوتين مرة أخرى اتهام البلاشفة بخيانة مصالح روسيا القيصرية خلال الحرب العالمية الأولى، ويحاول رسم مقارنات تاريخية مع ما يسمى تمرد “فاغنر”. وهو يتهم بريغوجين ورفاقه، وكذلك المعارضات الأخرى، بالخيانة. ومع ذلك، فإن جهل بوتين لحقائق التاريخ، أو بالأحرى ذاك النفاق، وذاك التشويه المتعمد للتاريخ إرضاء للبرجوازية والانحياز ضد الإنجازات التاريخية العظيمة للشعب السوفيتي، أشياء يمكن رؤيتها بالعين المجردة. أولاً، أنقذ البلاشفة بقيادة لينين روسيا المنهارة، من هزيمة ماحقة أمام ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، كما أنقذوها بخاصة من شهوات الحلفاء “المتحضرين”، الذين ما عتموا أن قاموا، جنبًا إلى جنب مع الجيش الأبيض، بتدبير غزو 14 دولة لروسيا السوفيتية أثناء الحرب الأهلية.
بعد هذا التمرد اتضح مرة أخرى أن السلطات الروسية ليس لديها خطة واضحة للخروج من الحرب ولا نموذج للتعايش في المستقبل مع أوكرانيا. ليس عبثاً أن تسمى هذه الحرب غالبًا بالحرب الغريبة، لأن هناك في نفس الوقت تجارة روسية مع العدو – مع كل من أوكرانيا ودول الناتو، وهم يطالبون برفع العقوبات المفروضة على التجارة، إلخ. السلطات تقاتل وفقًا للوضع وتبحث عن فرصة للحصول على مركز متميز ولحظة مناسبة لمقايضة الشركاء الغربيين. ويمكن أن يستمر هذا لفترة طويلة جدًا، وهو ما يتماشى أكثر مع مصالح أمريكا، المستفيد الرئيسي من الوضع الحالي، من التدمير المتبادل للشعبين الروسي والأوكراني، مما يعزز موقعها في المعسكر الإمبريالي.
-الخطر الرئيسي الآن يكمن في انهيار روسيا وفقدانها سيادتها، وهو خطر لا يزال قائما حتى اليوم. وسيستمر حتى بعد انتهاء الأعمال الحربية، وحتى في حالة تحقيق النصر غير المشروط الذي يرغب فيه الكرملين. علاوة على ذلك، وعلى الرغم مما قد يبدو عليه الأمر من غرابة، فإن الخطر الأكبر ينبغي توقعه على وجه التحديد من خيار “تطبيع” العلاقات، ورفع العقوبات، واستعادة العلاقات التجارية مع الغرب، لأن روح الربح هي التي تفوز دائمًا في صراع الأنظمة البرجوازية المتجانسة، وينتصر في هذا الصراع رأس المال الأقوى والأكثر تنظيماً.
الاستنتاجات الرئيسية من التحليل أعلاه هي التالية:
– كشفت المواجهات العنيفة التي خرجت للعلن بتمرد بريغوجين بين قوى السلطة في روسيا، مرة أخرى عن تقرح وتعفن الرأسمالية الروسية، وهذا ينطوي على خطر محتمل على وحدة البلاد وسيادة الدولة.
– في ظل عدم إحراز نصر مظفّر على جبهات أوكرانيا ضد الناتو وأتباعه، يمكن أن نتوقع تعزيزاً للرجعية في روسيا، واستمراراً لتصفية الإرث السوفيتي، وتشديدا للخناق على الحركة العمالية، والحقوق والحريات الديمقراطية، ومزيدا من إخصاء الديمقراطية الانتخابية، وصولا إلى تأجيل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية العام القادم.
Leave a Comment