*بتول يزبك
في الصورة المُرتجلة، يرتفع سحابٌ أسود نحو السّماء الواطئة، كنبتة فطرٍ جهنميّة. في الصورة، ينفلش الدخان الرماديّ ساحقًا المدى المفتوح لسطوح القرميد. في الصورة، ينتصب معبد “جوبيتر” –ملك الآلهة الرومانيّة وإله السّماء– متظللًا بسماءٍ محمومة وتوراتيّة. في الصورة نفسها، سينوغرافيا ملحميّة لقلعةٍ صامدة تنوء بكسوةٍ ثقيلة من العوادم، وهي تُزّنر بغاراتٍ جويّة.
أجرّب في ذهني تأليف مشهديّة أُخرى، لنهاية المدينة الكوزموبوليتانيّة –في زمنٍ غابر–، لسقوطها للمرّة الألف. وأتخايل بعلبك بلا قلعتها. اتخايلها تُقتلع بقبضةٍ جبارة، تُقتلع كمسمارٍ حجريّ بديع، وبتحاملٍ وغلاظة لتنفرط منها الزخارف والآماني وليالي الغناء والندامة والآلهة والتاريخ، سنةً بعد سنة، وإلهًا بعد إله، وحجرًا بعد حجر. وأرى بعدها المدينة منزوعة القلب، هكذا في عراء السهل، محشورةً بين سلسلتي جبال، تُغمر بالرثاثة، وتنساب في بحرٍ من الكيتش، من الثقافة الاستهلاكيّة الخرافيّة والعمران المُبتذل الرديء، فيما تبرق فوقها قبةٌ مُصطنعةٌ بلونٍ ذهبيٍّ يُعمي الأعين، سيُفرط حتمًا ثلةٌ من سُياح أقصى الشرق الأوسط في تقريظها.
وأتخايل في المدينة الجديدة –الّتي لم تعد مدينتي– أن هناك أطلالًا ليست بالتاريخيّة، هي أطلال منازل المدنيين. وفي المدينة الجديدة، هناك معبدٌ واحد لم تتنازع الإمبراطوريات والحضارات تكرّارًا على القبض عليه وزخرفته برموزها وترك أثرها فيه. وفي المدينة الجديدة، يتحول الاستهلاك الثقافيّ كجزء من خيارات العيش، وكأولوية في الحاجات اليومية للسكّان، إلى استهلاكٍ مؤدلجٍ، وحصريّ وبالوكالة. ويتحول الإرث العالميّ والذاكرة “الوطنيّة” إلى وقفٍ يستجدي التمويل من زائريه لإزدهاره.
وأقول في ذهني: “يا لوحشية الاقتلاع..”
القلعة إذ تهزها الغارات منذ يومين، أغار سلاح الجوّ الإسرائيليّ على بُعد أمتارٍ عن قلعة بعلبك.
السّورياليّ، أنّه ومنذ عامٍ تحديدًا خرج وزير الثقافة (؟) في حكومة تصريف الأعمال، القاضي محمد المرتضى، ليقول بتذاكٍ بمنشور على منصة “إكس”، إنّه “أمر بإزالة شعار الدرع الأزرق لحماية الممتلكات الثقافيّة خلال النزاع المُسلّح Blue Shield”، عن قلعة بعلبك، مبرّرًا قراره الفذّ بأنّ “الفظائع في غزّة، أثبتت أنّ مثل هذه الدروع لا تحمي شيئًا، وما يحمي لبنان وشعبه والأملاك الخاصّة والعامّة فيه هو جيشنا الباسل والمقاومة المقتدرة التي تمثّل درعنا الحصينة، التي جعلت العدو الإسرائيلي متيقنًا بأنّ مسّه فينا سوف يجرّ عليه ويلات لا قدرة له على تحمّلها. هنالك من اجتهد فأخطأ بوضع ذلك الشعار ظنًّا منه بأنّ التذكير بالمواثيق الدوليّة والاحتماء بها والاحتكام إليها يحمينا ويحمي ممتلكاتنا ومعالمنا الأثريّة، لكن الواقع أن هذه المواثيق حبرها بهت وجرى طمسه بفعل دماء اطفال غزة التي أريقت من قبل إسرائيل وداعميها”.
وقد جاء قرار الوزير في الأسابيع القليلة الّتي تلت بداية الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزّة والاشتباكات جنوبي لبنان -كجبهة “مساندة”- حيث تهافتت شتّى الجمعيات الأهليّة والمدنيّة لوضع خطط طوارئ، لتوثيق كل انتهاك يطال الأراضي اللّبنانيّة، بل ولحماية السكّان ونجدتهم، وردع أي مخالفة لآلة التخريب الإسرائيليّة، بموجب القانون الدوليّ. وعلى هذا الأساس، تطوعت في هذه الفترة عدّة منظمات من بينها جمعية “بلادي” المعنية بالحفاظ على التراث، بالتعاون مع المديريّة العامة للآثار، لتعليق شارة “الدرع الأزرق على 22 موقعًا أثريًا حول لبنان، ومن ضمنها قلعة بعلبك، وذلك بموجب الحماية الدوليّة الّتي توفرها اتفاقية لاهاي (1954)، الّتي جرى وضعها بعد الدمار الهائل الذي طال التراث الثقافي في أثناء الحرب العالمية الثانية. وتُعدّ أول معاهدةٍ عالميةٍ لحماية التراث الثقافيّ في أثناء النزاعات المسلحة، بما يشمل النُّصُب التذكارية المعمارية والمواقع الأثريّة والتاريخيّة والأعمال الفنيّة وغيرها.. إلا أن وزير الثقافة أمرّ بإزالة شارة الدرع بقياس 3*5 أمتار على القلعة دون سواها..
وإذ يبدو أن الوزير المُستجير بمقاومته، دون الحماية الدوليّة، والذي طمأن لحظتها البعلبكيين خصوصًا واللّبنانيين عمومًا، أن لا ضير سيمسّ القلعة ولا الذاكرة الوطنيّة المُهدّدة بالاضمحلال، قد أخطأ في الحساب. فاليوم، وبعد سلسلةٍ من الغارات الجويّة على المدينة ومحيطها، نتساءل نحن البعلبكيون (أو جزءٌ منا) عن مصير مدينتنا، المدينة القديمة (هل فعليًّا هناك من يلتفت لمصائرنا؟)، وعن من يحمي مواقعها التراثيّة المُحتفل بها عالميًّا، وهل تندثر المدينة القديمة بمعالمها، بضربةٍ إسرائيليّة وحسب، هل ستحتضر هذه الأطلال الحضاريّة الّتي عاشت وعلى أقلّ تقدير 4 آلاف عام، بمزايدة وزير “ثقافة”؟
وفيما قلّةٌ قليلة اليوم من الآراء الّتي تُرجح أن القلعة والمواقع الأثريّة الأخرى في المدينة تحديدًا، غير مُهدّدة. إذ أنه كلّه من الوارد في زمن “الوحشيّة الإسرائيليّة” وفي زمن الحرب الّتي للآن لا يوجد أفق واضح أو تصور صريح للمجرى الذي قد تتخذه، فإن إصرار وزير الثقافة على عدم وضع الدرع على القلعة، الّتي تحتوي أضخم المعابد الرومانية المتبقية على الإطلاق، وواحدة من الأفضل حفظًا في الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا، هو رفع المسؤوليّة والحماية الّتي تقدمها الاتفاقيّة. وفي حال فعليًّا جرى اعتداء على القلعة، فإن الجهات الدوليّة المولجة لن تقوم بالمساءلة.. وطبعًا لأن الوزير قد أزال هذا الدرع، مع العلم المسبق بالتداعيات لمثل هذه الخطوة.
ويُذكر أن “المدن” حاولت تكرارًا التواصل مع الوزير ووزارة الثقافة، من دون الحصول على أي جواب على استفساراتها الطارئة، وخصوصًا أن وضع الدرع هو أولويّة حاليًّا، بظلّ التهديد الذي نفاه من سنة الوزير.
طوفان الوزير
أما وفي الأسطورة، قيل أن أوّل من أنشأ بعلبك هو قابيل. وقيل أن بعلبك هي المدينة الوحيدة الّتي نجت من الطوفان في عهد نوح. وقيل أن النقوش المحفورة على جدران المعابد القديمة في بعلبك، تُشير إلى وجود حياةٍ في المدينة، قبل 10 آلاف عام.
أما السّورياليّ، أن تنجو بعلبك من طوفان نوح، وأن تُغمر في طوفان وزير ثقافة.
*نشرت في المدن الالكترونية يوم الخميس 2024/10/10
Leave a Comment