* دلال البزري
لم يكن صرحاً من خيال…
عاش حزب الله أكثر من الأحزاب اللبنانية غير العائلية كلّها. أربعون عاماً، قضى نصفها الثاني مهيمناً على لبنان، ثابتاً بالهيكلية السرّية، وبالقيادة المُعَّينة، ومن دون انشقاقاتٍ ذات ثقل. كان حزباً منضبطاً، مدرّباً، مموّلاً بسخاء، ترعاه إيران بأدقّ تفاصيله، توحي الثقة بديمومته. وُصف مراراً “درّة التاج الإيراني” بفضل قِدمه وخبرته مقارنةً بالمليشيات الشقيقة، أفغانية وعراقية ويمنية. تمكّنت قوّته من إسرائيل. أخفقت هذه الأخيرة بنزع سلاحه في حروبها ومناوشاتها كلّها معه. في العام 2000 نجح هو والأمّهات الإسرائيليات بإقناع رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، إيهود باراك، بالانسحاب من جنوب لبنان بعد 18 عاماً من الاحتلال. كانت شعبيته تتخطّى لبنان، وفلسطين طبعاً، وأيضاً العرب المتعطّشين لإيذاء إسرائيل، والغاضبين من خمول قادتهم واستنكافهم عن محاربتها لاسترجاع الحقوق. وبعد ستّ سنوات على هذا الانسحاب، خاض حرباً ناجحةً أخرى (2006)، لم تتمكّن فيها إسرائيل، مرّة أخرى، من نزع سلاحه.
ومنذ أكثر من عشر سنوات، وُفِّق حزب الله أيضاً في تنفيذ خطط ميدانية عسكرية بقيادة إيران، دعماً لبشّار الأسد المُهتزّ عرشُه، وخرج من هذه الحرب أقوى، أكثر خبرةً وتدريباً. وتحوّل في تلك الفترة (أو نظر إلى نفسه) قوّةً إقليميةً لها رجالها في اليمن، وفي العراق، وبدرجاتٍ أقلّ في دول موزّعة بين الشرق والغرب.
في لبنان، نجح الحزب في تشكيل طبقة حاكمة، تقاسم الأدوار مع أقطابها في البداية؛ يكون لها الدولة وله السلاح. أي باللغة اللبنانية المعروفة، لها الفساد المسمّى “حصصاً”، وله سلاحه. ولكنّ القسمة لم تدُم، فاستُبدِلت الأدوار، وباتَ هو صاحب القرار الأول في تحديد هذه الحصص من بين المشتهين حوله من زعماء كبار وصغار؛ يقفون على باب داره، يؤمّنون حصّتهم فيوالونه هو وسلاحه. وما وطّد هذه العلاقة أنّ طعم الحصص كان تنافسياً ومغرياً، فتمكّن الحزب بذلك من النيْل من مؤسّسات الدولة كلّها، وصار فوقها، يُشكّل حكوماتها، يفرض رئيس جمهوريتها، أو يُعطّل انتخابَ رئيس جديد لا يكون مُؤيّداً لسلاحه، ويُؤبّد لحاكم مجلس النواب خلال 30 سنة… إلى ما دون ذلك من مؤسّسات تُشكّل عمقَ الدولة، أيَّ دولة، بل أقوى من الدولة، فمن لا يرضى بهذه القسمة يُلغَى جسدياً، أو تُقطَّر حصّته، أو تُنتزَع، أو يُسكَت، أو يُسحب من المشهد… وهذا كلّه من دون محاسبة، ولا تحقيق، ولا حقائق منشورة. وما دعمَ هذه المناعةَ، أنّ مخالفات الحلفاء المدروسة، الخاصّة بمغارات السرقة، كانت “مضبوطة” يكاد يشرف على توزيع غنائمها.
مع هذا، تمكّن الحزب من نيل التأييد المطلق من حلقات يسارية. أفراد يساريون وعلمانيون، هم الغلاف الحامي لـ”المجتمع المضادّ”، الذي تمكّن الحزب من خلقه في بيئته المذهبية المباشرة. مجتمع مضادّ صلب، متماسك، وفيٌّ حتّى الموت، يشبه بملامحه الكبرى ذاك المجتمع المرغوب الذي رسمه المُنظِّر الإخواني، المصري سيّد قطب، وكان هدفه محاربة “المجتمع الجاهلي”. سمّاه حزب الله “مجتمع المقاومة”، وقد التصقت به صفة المقاومة إلى حدّ أنّ المقاومة صارت تعني حزب الله، وحزب الله يعني المقاومة. المقاومة وليس مقاومةً من بين المقاومات. بهذا المجتمع المضادّ، وبقوة عضلات أصحابه، تمكّن الحزب من إجهاض انتفاضة 17 تشرين (2019)، ومن سحب شبّانه الذين كان جزءٌ منهم في طليعتها، وتشكيل حكومةٍ على كيفه، وفرط هذه الحكومة، والاتيان بغيرها لا تقلّ ولاءً له.
ولكنّه هَوَى… هل كان يمكن للحزب أن يتجنّب إطلاق النار على إسرائيل بعد يوم واحد من اندلاع “طوفان الأقصى”؟ … الأرجح كلّا. أولاً لأنّ “الطوفان” كان فرصةً لانخراط إيران، أو لمزيد من انخراطها، في حساباتنا العربية. “دعم” غزّة بهذه الطريقة، ومن جهة إيران بالذات، كان شبه حتمي. ورقة ثمينة ومغرية باسم الدفاع عن القضية وكراهية الصهاينة والأميركيين. ثانياً، لو لم يطلق الحزب هذه الحرب، كان سيفقد جزءاً من شرعية سلاحه، وستسقط اللازمة التي رافقت كلامه وخطاباته كلّها: “لن ننزع السلاح لأنّنا نريد تحرير فلسطين والقدس”. ولكنّ الحزب يخوض هذه الحرب الآن بعقلية “الانتصارات” المتتالية على امتداد السنوات الطويلة السابقة. يبدو أنّه يُكرّر الآن ما فعله عام 2006، عندما خرج منتصراً، “تاريخياً استراتيجيا إلهياً”، لأنّه احتفظ بسلاحه، ما سمح له بعد ذلك بزيادة قدراته العسكرية، عُدَّةً وعديداً.
ودعايته تقول إنّ إسرائيل زائلة الآن، منقسمة، مذلولة، خائفة، وإنّ صواريخه ستنال منها، وإنّ الطريق إلى القدس تيسّر، وخائن ومتخاذل وجبان من يخشى هذه الحرب، وإنّه أعمى، لا يرى كيف تتكبّد إسرائيلُ الخسائر، وكيف هي إلى زوال… إلخ. وتجاهل أشياء كثيرة أخرى منها أنّ إسرائيل تغيّرت. تعلّمت دروس حرب 2006، الأمنية المخابراتية خصوصاً، وأنّها توحَّشت، حتّى إزاء شعبها. فالمحتجزون ليسوا من أولوياتها، بعدما كانت تبذل الغالي والنفيس من أجل محتجز واحد (جلعاد شاليط في مقابل أكثر بقليل من ألف سجين فلسطيني). وهي فوق ذلك تخوض حربَ وجودٍ مع حركة حماس، لم توفّر فيها أيَّ جريمة على ضميرها، وغالبية شعبها تقف خلف قيادتها العسكرية في عدوانها على لبنان، بعد انتقاداتها العنيفة أداءها في غزّة.
عاش الحزب على نعيم “مشاغلة” إسرائيل، و”قواعد الاشتباك”، طوال السنة الماضية منذ “الطوفان”، رفعت من شعبيّته، ولم يكن يتوقّع أنّ واحدة من نقاط ارتكازه الصلبة، أيّ بنيته الداخلية، القيادية أو الوسطى أو الدنيا، سوف تكون عرْضةً لأكبر اختراق أمني إسرائيلي يطيح شبابه، ويطلق الغارات المدمّرة والمُسيَّرات، في مناطقه أو تلك التي تؤوي أعضاءَ منه، أو مخازنَ أسلحته، وينال من حياة أمين عام الحزب، فكانت مفاجأته الكبيرة، واكتشافه المُتكرّر لتوحّش إسرائيل وغدرها وإرهابها ودعم أميركا لها، كأنّه تراجع عن وعيه الانتصاري السابق، ومتأخّراً.
من أين المفاجأة؟ … من أنّه خاض المشاغلة وكأنّها نزهة، وهذا تمرين اعتاد الحزب ممارسته طوال سنوات “الانتصارات”. من أنّه يُهدّد إسرائيل من منطلق أنّه يملك أعتى الأسلحة القاتلة، إسرائيل التي تستحقّ الموت بصواريخه، هي الشرّ الأكبر، ولكنّه يُؤخَذ على حين غرّة عندما تردّ عليه إسرائيل بشراسة، كأنّه كان ينظر إليها يمامةً وديعةً. ثمّ كأنّه نسي أنّه نخرَ الدولة، وأنّه لم يستشرها بخصوص قراره بحرب “المشاغلة” مع إسرائيل، وأنّه لم يضع خططَ طوارئ معها. مع انكبابه على التفاجؤ بوحشية إسرائيل، اكتشف أيضاً أنّ الدولة لا تستطيع أن تؤمّن المأوى لنصف مليون لبناني (يقول نجيب ميقاتي إنهم صاروا مليوناً) هارب من الطيران الإسرائيلي.
وقصة الفُرَش المُخصّصة لمراكز الإيواء شغلت إعلام حزب الله. فكان سجال يدور حول “300 ألف فرشةٍ وبطّانية كان قد خزّنها حزب الله، في مستودعين في الجنوب، احترقت جرّاء الاعتداءات الإسرائيلية”، وأنّ المسؤول عن ذلك هو الدولة، “التي لم تضع يدها على مستودعات الفُرَش المُخزّنة في امتداد الأراضي اللبنانية”، و”على التجّار الكبار الذين يحتكرون الفُرَش في لبنان”. السجال ليس هزلياً، إنّه واحد من الأمثلة على تهميش الدولة من ناحية، وعلى محاسبتها على تقصيرها الناجم عن تهميشها من ناحية ثانية.
بقي على لائحة التجاهل أو النسيان دولتان: سورية التي أعفاها الحزب رسمياً من المشاركة أو الدعم أو الإسناد. رسمياً وشعبياً أيضاً، لم تدخل في “الساحة الموحّدة”، وتحوّل مواطنوها أداةَ ثأر ضدّ نازحيه. إنّه اختلاف جذري عن 2006. إيران، التي أرسلت الإشارة تلو الأخرى أنّها لن تطبّق “وحدة الساحات”. صار الجميع الآن منتبهاً إلى أنّ إيران بصدد تغيير وجهتها، أو على الأقلّ أنّ ثمّة صراعاً بداخلها بين جناحيها؛ واحد يريد دخول الحرب، والآخر ينادي بالمصلحة العليا والانفتاح على الغرب، وتحريك الملفّ النووي. هنا أيضاً تختلف إيران عما كانت عليه في حرب 2006.
أين غزّة من ذلك كلّه؟ ألم تكن الحرب من أجل غزّة؟ ها هي غزّة تغوص في بحر النسيان، أمام أهوال لبنان. وبالأساس، هذه الحرب من أولها لم تسعف غزّة وأهلها المنكوبين سوى بصواريخَ هزيلةٍ، وبألفاظٍ وبكليشيهاتٍ يسخر الآن منها بنيامين نتنياهو بثقة من بات يحمل بين أقرانه صفة “ملك إسرائيل”.
* نشرت على موقع العربي الجديد بتاريخ 3 تشرين الاول 2024
Leave a Comment