محسن إبراهيم

لماذا يُحتَرَم محسن ابراهيم؟

حازم صاغيّة*

هناك من يستغرب، وهناك من يدين، الخلاصات السياسيّة التي توصّل إليها محسن ابراهيم في العقدين الأخيرين من حياته، والتي حملته على الانسحاب من الحياة العامّة العريضة، وعلى ما يشبه الاعتكاف. الاستغراب والإدانة أقوى ما يكونان حين يكون الحديث عن اعتذار ابراهيم عن المشاركة في الحرب اللبنانيّة ابتداء بـ 1975.

لكنْ، قبل الحُكم، تعالوا نستعرض المحطّات الأساسيّة في حياة الراحل بوصفها محطّات في حياة جيل وتجربته:

محسن ابراهيم المولود في 1935 بدأ يتلمّس الشأن العامّ مع هزيمة 1948 حين قامت دولة إسرائيل على أنقاض فلسطين. الهزيمة التي سمّاها العرب نكبة، حكمت معظم التجارب التالية التي قدّمت نفسها كردود عليها. أحد تلك الردود، وهو الذي اختاره محسن، كان “حركة القوميّين العرب” التي وعدت بـ “الثأر” لفلسطين، فضلاً عن “الوحدة” و”التحرّر”، على أن يتمّ ذلك بـ “الدم والحديد والنار”.

تلك التجربة ما لبثت أن التحقت بالناصريّة التي تحوّلت، عام 1956، من ظاهرة عسكريّة مصريّة إلى ظاهرة شعبيّة عربيّة. في 1958 حقّقت الناصريّة والقوميّة العربيّة انتصارهما الكبير بقيام “الجمهوريّة العربيّة المتّحدة” التي جمعت مصر وسوريّا في دولة واحدة.

الوحدة تلك التي سُمّيت بحقّ “أوّل وحدة في التاريخ العربيّ الحديث”، والتي قام الرهان على أنّها ستحرّر فلسطين، انهارت بعد ثلاث سنوات. هكذا قضي على “الجمهوريّة العربيّة المتّحدة”، التي كان أهمّ ما بقي من ميراثها نظامٌ أمنيّ وبوليسيّ رمزت إليه شخصيّة وزير الداخليّة عبد الحميد السرّاج. مذّاك لم تقم للوحدة قائمة.

المسيرة المشتركة بين الناصريّة و”حركة القوميّين العرب” بدأت تتصدّع ببطء وتدريج إلى أن انفجرت العلاقة مع هزيمة 1967 المجلجلة. لقد تبيّن أنّ التعامل مع الناصريّة بوصفها ردّاً على الهزائم وتحريراً لفلسطين مجرّد وهْم مثير للشفقة.

“حركة القوميّين العرب” راحت تتشقّق. محسن، بعد تردّد، انضمّ إلى الطرف الذي سمّى نفسه ماركسيّاً لينينيّاً لسبب لا علاقة له بالماركسيّة اللينينيّة إلاّ عَرَضاً. السبب الفعليّ كان المسألة القوميّة التي عجزت الناصريّة عن إنجادها. هكذا، وكما قال التحليل الرائج يومذاك، لا بدّ لتحرير فلسطين من الطبقة الأكثر ثوريّة، أي البروليتاريا، والنظريّة الأكثر ثوريّة، أي الماركسيّة – اللينينيّة. والحرب الأكثر ثوريّة، أي حرب العصابات. وضمناً، كان ما يزيد الإغراء باتّباع هذا البديل رهانٌ على دعم “المعسكر الاشتراكيّ”، وإعجاب بـ “نجاحات” النموذجين الفيتناميّ والكوبيّ.

عتمة 1967 الشاملة لم تحل دون رؤية نجم بعيد في السماء: إنّه انتصار “الجبهة القوميّة” في جنوب اليمن الذي استقلّ للتوّ. “الرفاق” المتفرّعون عن “حركة القوميّين العرب”، من اصدقاء محسن وتلامذته، باتوا حكّام ذاك البلد. لكنّ البداية لم تكن مشجّعة: سريعاً ما بدأت النزاعات والتصفيات بين “يسار” يرمز إليه عبد الفتّاح اسماعيل وسالم ربيّع علي و”يمين” يعبّر عنه قحطان وفيصل الشعبي. الدم الذي سال يومذاك لم يكن إلاّ بداية دم كثير. ومن نزاع عبد الفتّاح وربيّع علي إلى نزاع عبد الفتّاح وعلي ناصر محمّد…، كان يتبيّن أنّ “أمل البروليتاريا العربيّة” لا يتحقّق إلاّ بتعليق المشانق وكمّ الأفواه، فضلاً عن الإمعان في إفقار الفقراء.

في 1989 كفّت هذه التجربة جملة وتفصيلاً عن الوجود. حصل ذلك بعد حرب أخرى جعلت الغربان تملأ سماء عدن، كما وصف بعض الصحافيّين الحالَ يومذاك.

لكنّ الانهيار كان، في الوقت نفسه، يضرب موقعاً آخر أكبر وأهمّ كثيراً من اليمن الجنوبيّ: إنّه الاتّحاد السوفياتيّ، القائد الأمميّ بلا منازع لـ “الثورة الاشتراكيّة” وداعمنا في المعارك القوميّة. مع ميخائيل غورباتشوف انكشفت تلك التجربة بوصفها غير قابلة للحياة. مع بوريس يلتسين وُدّع الاتّحاد السوفياتيّ إلى مثواه الأخير، وسقطت اشتراكيّته في دزينة من الدول الأوروبيّة وغير الأوروبيّة. بلدان كالصين وفيتنام كانت تنعطف نحو اقتصاد السوق. بلد كأنغولا تخلّى رسميّاً عن الشيوعيّة وبدأ يتّجه غرباً. جزيرة كوبا لم يعد لها إلاّ الله.

في هذه الغضون كانت التطوّرات اللبنانيّة والفلسطينيّة صاحبة الإسهام المباشر في تكوين القناعات والدفع إلى المراجعات.

من خلال “منظّمة الاشتراكيّين اللبنانيّين” ثمّ “منظّمة العمل الشيوعيّ”، كان الدخول الصاخب إلى متن الحياة السياسيّة اللبنانيّة. في 1975 اندلعت الحرب الأهليّة – الإقليميّة التي رسمتها “الحركة الوطنيّة اللبنانيّة” و”المقاومة الفلسطينيّة” مدخلاً إلى لبنان آخر غير ذاك الموصوف بالانعزاليّة والانتماء إلى الغرب الإمبرياليّ.

محسن، كان هنا أيضاً، في الصدارة. السلاح كان يتدفّق على لبنان من أنظمة العسف والقهر في العالم، كالاتّحاد السوفياتيّ وبلدان كتلته، وفي العالم العربيّ، كسوريّا الأسد وعراق صدّام وليبيا القذّافي. بعض هذه الأنظمة الأخيرة كانت تقيم معسكرات التدريب، وبعضها كان يرسل المال أيضاً.

الحرب الأهليّة تلك فسّخت لبنان وألحقت اليسار بالنزاع الطائفيّ فيما طهّرتْه تماماً من مسيحيّيه. كمال جنبلاط، “المعلّم”، قتله “الحلفاء السوريّون”. فوق هذا، مهّدت تلك الحرب لغزو إسرائيليّ استمرّ احتلاله لأكثر من ربع مساحة لبنان قرابة عقدين. محسن كان في عداد الذين فكّروا بـ “مقاومة وطنيّة” تتصدّى للاحتلال. لكنْ في هذه الغضون كان الوطن قد ضمر أو انشطر فيما الطوائف هي التي انتعشت وحدها. هكذا وبلقمة واحدة أكلت المقاومةُ الشيعيّة المقاومةَ الوطنيّة ومعها ما تبقّى من مقاومة فلسطينيّة. لقد بات واضحاً أنّ العصبيّة الطائفيّة هي وحدها التي تستطيع، والحال هذه، أن تقاوم، وأنّها لا تقاوم إلاّ بوصفها عصبيّة طائفيّة. أمّا الأجزاء التي لم يحتلّها الإسرائيليّون من لبنان فاحتلّها الأمن والجيش السوريّان اللذان صادرا الحياة السياسيّة في لبنان وأذلاّ “الأخوة” اللبنانيّين من دون تمييز. الشيوعيّون كانوا في طليعة “الأخوة” المذلولين. لم يعد الشيوعيّ مقبولاً كنادل في صالون غازي كنعان.

التجربة الفلسطينيّة لم ترتقِ إلى حرب تحرير شعبيّة تحرّر فلسطين. في 1991 كانت مدريد. في 1993 كانت أوسلو. القبلة باتت دولة فلسطينيّة تتحقّق تدريجاً وفي تنسيق أمنيّ مع الإسرائيليّين.

إذاً، وعلى امتداد هذه التجربة المديدة لم يصحّ تقديرٌ واحد، ولم تنجح تجربة واحدة. فشل مأساويّ بعد فشل مأساويّ. ضحيّة بعد ضحيّة، والضحيّة الأكبر في هذا المسار الإسهامُ النشط في تدمير لبنان – التجربة التي تبقى، على علاّتها، الأرقى بلا قياس في هذا العالم العربيّ.

ماذا يفعل الشخص المحترم الذي ساهم، كثيراً أو قليلاً، في هذه الكوارث كلّها؟ يمضي في الطريق نفسها، أم يصرّ على احتلال موقع النادل في صالون غازي كنعان ومن بعده رستم غزالي، أم ينسحب ويعتذر ويراجع؟

لا أعرف ما إذا كان محسن ابراهيم قد راجع بما يكفي وبما يعادل حجم الأخطاء والكوارث، لكنّه انسحب واعتذر. كان حسّه بالواقع، النابع من كثافة التجارب ومن الذكاء في التقاط معانيها، يمنعه من ارتكاب ما ارتكبه آخرون من أبناء جيله والأجيال الأصغر، أي المضيّ في المكابرة والإنكار كما يمضي قطار مات سائقه فجأة. 

الماضي النضاليّ؟ لم يبق منه إلاّ صداقات ومناسبات لتكريم الكثيرين الذين رحلوا وتركوا وراءهم أفقاً مسدوداً، ولم تبق إلاّ عموميّات إنشائيّة لا تُسمن ولا تغني من جوع. الحاضر، والحال هذه، ينبغي أن يكون تكفيراً عن ذنوب كثيرة. محسن ابراهيم حاول ذلك، وهو ما يُحتَرم عليه.

*كاتب سياسي لبناني

Leave a Comment