كتب عبدالله السوقي
ما الذي يؤخر اللبنانيين عن أن يثوروا، ويقلبوا الطاولة بوجه زعمائهم وحكامهم، وقد بلغ الوضع الاقتصادي ـ الاجتماعي ما بلغ من الانهيار؟ وما الذي يجعلهم يتعودون على الوضع القائم؟ يتذمرون ويشتكون دون أن يفعلوا شيئاً حقيقياً لوقف الانهيار؟ لماذا لا يعودون إلى الشارع، يعتصمون، يتظاهرون مقتلعين ناهبيهم وسارقيهم (وهم معروفون) من مواقعهم، حتى وصل الامر ببعضهم (وهم كثر) حد لوم الناس على سلبيتهم، بل حد الشماتة والتشفي، تعبيراً عن غضبهم لأن اللبنانيين ما ثاروا بعد. (هم لا ينحازون إلى مصالحهم، وما زالوا قطعاناً طائفية، وبالتالي هم يستحقون ما يصيبهم).
هذا يحيلنا على إشكالية الانقسام في هذا البلد، نحن لا نضيف شيئاً عندما نقول أن الإنتماء في لبنان هو إنتماء إلى الطائفة والمذهب أولاً، ثم إلى الوطن ثانياً. (وهذا ليس إكتشافاً جديداً) بل يمكن لنا أن نقول إن الانتماء إلى الطائفة والمذهب قد تعمق اكثر فأكثر على مدى مرحلة الهيمنة السورية على لبنان بعد العام ستة وسبعين من القرن الماضي، وخصوصاً في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الأهلية وإقرار نظام الطائف. حيث تمَّ العمل حثيثاً على إدخال الطائفية إلى كل مفاصل الحياة، صغيرها قبل كبيرها. وصار قادة الميليشيات الطائفية هم الحكام. (أمراء الحرب هم أمراء السلم). وهمشت أو ألحقت القوى والأحزاب العلمانية، وأفرغت النقابات من مضمونها، لتتحول الى ملحقات بالطوائف، وأركان السلطة الطائفيين، فقزِّم وهمش الاتحاد العمالي العام، وأصبح الحصول على أي خدمة من الدولة يتطلب أن تقبِّل اعتاب زعيم طائفتك حصراً، حتى بات الزعيم الطائفي الميليشياوي نصف إله أو حتى إلهاً. هكذا كان الإنتماء الطائفي يتعزز يوماً بعد يوم على حساب الانتماء الوطني. (الذي كان في الأصل هشاً)، حتى شطب الانتماء الوطني، بل والوطن نفسه من قاموس بعض الاحزاب الطائفية وجمهورها. (حلم الامبراطورية الشيعية، حقوق المسيحيين، الأصوليات الاسلامية داعش وأخواتها)، هكذا تعمق أكثر فأكثر الانقسام العامودي في المجتمع اللبناني، بينما يختفي الانقسام الافقي.
هكذا أصبح الانقسام العامودي في المجتمع اللبناني أكثر عمقاً. صار في الانقسام الرئيسي، بينما تحول الانقسام الافقي إلى ثانوي. كنا دائماً نوقن ونعتقد أن العلاقة بين قوى الانتاج (علاقات العمل) هي العلاقات الأساسية التي تحرك المجتمع، هي التي تحدد سيرورة تطوره، وتكِّون العلاقات الاخرى (البنية الفوقية هي انعكاس يكاد يكون اتوماتيكياً للبنية التحتية: (علاقات الانتاج)، فهل الامر هو كذلك؟ إن إنقسام المجتمع عامودياً بشكل رئيسي بدلاً من إنقسامه أفقياً يظهر لنا أن هذه النظرية بحاجة إلى إعادة نظر. في لبنان على الأقل حيث هُمشت علاقات العمل والانتاج وحلت محلها علاقات أخرى تقوم على الولاء الطائفي والعشائري ولتصبح هي الرئيسية. فقد تمَّ تشويه ما هو في الاصل مشوهاً. فالمجتمع اللبناني المشوه ازداد تشوهاً، مع تعمق الانقسامات والصراعات ذات المنحنى الطائفي العشائري.
إن النظام السياسي الاجتماعي الاقتصادي في لبنان هو نظام هجين مأزوم، يقوم على الجمع بين علاقات اقطاعية او شبه اقطاعية مهزومة تاريخياً، ولكن هزيمتها لم تؤد إلى اضمحلالها وإبادتها، فتلبست لبوساً طائفياً عشائرياً، مع علاقات بورجوازية غير ناجزة ومعاقة، تستند الى اقتصاد معاق، مشوَّه ومشلول. هذا الواقع اللبناني أنتج خطاباً طائفياً مذهبياً يلبس ثوباً وطنياً. (لا يتناسب معه) ففي حين إن الخطاب الوطني يستند إلى علاقة المواطن بوطنه وينشد تقدم المجتمع وتطوره، وتحرير البلد من ازماته، وإطلاق عملية بناء دولة ناجزة تستند إلى علاقة وطن ومواطن، فإن الخطاب الطائفي يسعى إلى تأبيد العلاقات الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية السائدة. فالخطاب الطائفي المذهبي لا يستطيع أن يكون خطاباً وطنياً، فهو من حيث بنيته لا يستطيع ان يكون خطاباً جامعاً. لأنه خطاب يقوم على استثارة العصبيات وتعميق الانقسامات، بهدف شد العصب الطائفي والمتمرس وراء حقوق الطائفة وتحشيد جمهورها وراء الزعيم الناطق باسمها، بحجة الدفاع عنها، كي لا تهضم حقوقها. فالطائفة الاخرى تتربص بها وبمصالحها وحقوقها ونفوذها. ما يستثير العصبيات الطائفية الاخرى مما يعمق الانقسام الاجتماعي. والخطاب الطائفي هو خطاب تقسيمي بطبيعته وبنيته. ولا يمكنه أن يكون خطاباً جامعاً وموحداً. على عكس الخطاب الوطني الذي لا يمكن له الا أن يكون خطاباً جامعاً. فهو بنيوياً يقوم على مصالح عامة تطال اكبر عدد ممكن من المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية أو المناطقية أو الدينية والثقافية. ويحاول تحشيد الجميع وراء المصالح التي تجمعهم، فهو لا يكون الا خطاباً جامعاً موحداً. ولذلك نجد أن الجمع بين الخطابين مستحيل بنيوياً. وعلينا بالتالي أن نختار بينهما. وأن نجد خطاً توفيقياً بينهما يبدو أكثر استحالة، فالجمع والتوفيق بين خطابين متناقضين لن يؤدي الا إلى مزيد من الضياع، والمزيد من تشويه البنية المجتمعية وبالتالي مزيد من الانهيار والتسليم به.
إن غياب هذين الشرطين جعل اليسار كل اليسار وبكل أطيافه، يتخبط على غير هدى، ويضيِّع الفرص التي اتيحت لإلتقاط اللحظة المناسبة ليستعيد دوره في القيادة والريادة والفعالية والتأثير في مجرى الأحداث. والآن في لحظة التأزم الحالية وقد بلغ الانهيار مداه، على المستويات كافة وفي شتى المجالات، وعلى مختلف الصعد، وفي ظل إمعان كل قوى السلطة الميليشياوية في نهب وتخريب ما تبقى من مقومات البلد ومؤسساته، معرضين الوطن برمته للإنهيار الشامل، الذي لا يهدد الاقتصاد والمؤسسات الرسمية والاهلية وعلى السواء فقط، بل الكيان للإنحلال والتلاشي ومعه الاجتماع اللبناني بكل مقوماته ومكوناته، وبالتالي الكيان اللبناني نفسه للإنحلال والزوال. في هذه اللحظة التي ربما تكون الفرصة الاخيرة، اليسار مدعو أكثر من أي وقت مضى إلى الخروج على نفسه، وعلى كل الاحكام المسبقة إلى التقاط الفرصة، وصوغ برنامج وخطة عمل تجنب البلد الانهيار وتضعه على طريق تجاوز الأزمة وترسم أفقاً جديداً.
لا نتوهم أو نعتقد أن ذلك أمراً سهلاً ومتيسراً. ولكنه كهدف وغاية يستحقان بذل الجهد الاستثنائي، وتقديم كل الممكن، حتى الخروج على الذات، خوفاً من ضياع فرصة قد تكون الأخيرة التي لا تتكرر.
Leave a Comment