نجم الدين خلف الله
شكّلت لحظة الفيلسوف الانكليزي برتراند راسل (1872-1970) منعطفًا حاسمًا في تاريخ الفلسفة الحديثة بعدما أعاد تحديدَ وظيفة أمّ العلوم، فلم تعد في تفكيك القضايا الميتافيزيقيّة التي لا يمكن أن تُعالَج ضمن المنظور الوضعي وإنما في التحليل اللغوي للخطابات والتراكيب والمصطلحات ولاسيما تلك التي تحمل شيئًا من الالتباس، ثم تطبيق هذا النهج التحليليّ على الواقع السياسي ومتغيّراته.
فغالبًا ما يشكل هذا التباس المصدر الأول لسوء الفهم الحاصل بين الفلاسفة والسّاسة على امتداد التاريخ. وبهذا حوّل برتراند راسل وظيفة الفلسفة من حقل الميتافيزيقا إلى اللغويات، مطعِّما آليات التحليل المجرّد بالوسائل الألسنية والمنطقيّة وحتى الرياضيّة في كتاباتٍ ظلت المرجع الرئيس في الثقافة الغربية حتى اليوم.
وقد تُرجمت أعماله إلى العربية منذ أربعينات القرن الماضي، مع أنها تتضمّن صعوبات منهجية ترتبط بإمكان تطبيق الفلسفة التحليلية على الخطابات العربية-الإسلامية وعلى ما فيها من مبادئ وتصوّرات. وقد لعبت كتابات المفكر المصريّ زكي نجيب محمود (1905-1993) دورًا محوريًّا في التعريف بها لدى القارئ العربي ونشرها بين المثقفين بعدما ترجم بعضها وبسّطها، مما أثار العديد من الجدالات وخصوصا في مجال نقد الفكر الديني.
إلا أنّ معرفة الجمهور العربي بأعمال الرّجل تعود أساسًا إلى موقفٍ جريء عبّر عنه بهذه الجُمل يوم 31 يناير سنة 1970 قائلا: “لَطالَما قيل لنا إنَّه ينبغي علينا أن نتعاطف مع إسرائيل بسبب معاناة اليهود في أوروبا التي تسبب فيها النازيون. لا أرى في هذا الاقتراح سببًا معقولاً لتأبيد أية معاناة. إنّ ما تفعله إسرائيل في هذه الأيام لا ينبغي التغاضي عنه، كما أنّ استحضار فظائع الماضي لتبرير فظائع المستقبل لهو نفاق خالص”. وقد ألقي هذا النصّ، يوم 3 فبراير 1970 أي بعد وفاة راسل بيوم واحد، خلال أعمال المؤتمر الدولي لاجتماع البرلمانيّين في القاهرة. وهو ما يؤكّد انخراط الرجل حتى آخر لحظات حياته في مقارعة الاضطهاد.
إذن كان من المنطقيّ أن يعرّج هذا المفكر على أكثر قضايا عصره تعقيدًا وأكثرها كشفًا لتناقضات العقل الغربيّ وهي الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي وأن ينتقد فظاعات الاحتلال التي ارتكبت إثر حرب 1967 وما أعقبها من تجاوزات لم تتوقف حتى يومنا. وتصدق مقولة “النفاق” على انحياز الموقف الغربي المطلق لإسرائيل عبر استحضار معاناة اليهود في الحقبة النازية، كما تصدق على تواطؤ بعض الدول الغربية في جريمة الإبادة التي تتعرض إليها غزة اليوم.
ما نطق به هذا الفيلسوف منذ نصف قرنٍ هو خلاصة نظر عميق في حركة التاريخ وتحوّلاته وثمرة متابعة لعقود من الحرب الباردة وقبلها حربان عالميّتان، كما أنه حصيلة تأمل اغتذى بالتجريد الصوري والتحليل المنطقي حتى أنه لخّص جوهر النكبة الفلسطينية في صيغة تقرب من المعادلة الرياضيّة يقول فيها: “تكمن مأساة شعب فلسطين في أنّ دولة أجنبيّة منحت بلدَه لشعبٍ آخرَ، من أجل إنشاء دولة جديدة. كانت النتيجة أنَّ مئات الآلاف من الأبرياء وجدوا أنفسهم بلا مأوى”.
حيال هذه الجرأة في انتقاد الظلم، يحقّ لنا أن نتساءل عن أسباب عزوف الفلاسفة الغربيين عن تراث هذا المفكر وتجنب دمج أفكاره ضمن النقاشات الرّاهنة التي يتناولون خلالها أحداث السّاعة وما يضطرب في الساحة الدولية من نزاعات، مما يشي بتواطؤ فلاسفة “البلاتوهات” هؤلاء في تغييب أفكار راسل وحَجْبها عن قصدٍ، لأنها تُزعج منظومَتهم وتكشف تهافتها؛ مع أنه كان من المفترض أن يلجؤوا إليه وإلى تراثه الإنساني-العقلاني لتأويل هذه الأحداث والتصرّف الحكيم إزاءها. لكنهم انتقوا تحليلاته في حقل العلوم الرياضية وأعرضوا عمدًا عن مثل هذه المواقف السياسيّة مع أنّ كِليْهما يَصدران من عقل واحدٍ.
وقد يعترض البعض بالقول إنّ هذا الرجل سبق له وأن اعترف بدولة إسرائيل سنة 1943 في تصريحه القائل: “إنّي أدرك شيئًا فشيئًا أنّه، في هذا العالم المعادي والخطير، بات من الضروري أن يكون لليهود بلدٌ يعود إليهم، منطقة لا ينظر إليهم فيها كأجانب مشبوهين، أو دولة تُجسّد ما يعدّ مميّزًا لثقافتهم”، (كتاب: مستقبل السلميّة). وهو ما يعدّ دعمًا للصهيونيّة بما هي إيديولوجيا قوميّة تهدف لإقامة وطن لليهود. لكنْ هذا الموقف قد يكون مجرّد تعاطف مع ما تعرّض له اليهود أثناء الحرب العالمية الثانية على يد النازية، صرخة ضمير عبّر عنها انتقادًا لسياسات الألمان وقتها. كما أنّه لم ينادِ لا صراحةً ولا ضمنًا بإقامة تلك الدولة على أرض فلسطين بالذات ولا حثَّ على تهجير أهلها.
عاش هذا الفيلسوف 97 عاماً قضى جلّها في التأليف تاركًا أكثر من ستّين كتابًا وألفيْ مقال، فكان آخر ما كتب، في هذا العمر المديد، نصًّا عن فلسطين يدعو فيه إلى الضغط على الاستيطان اليهودي. فهل هو تعبير عن ندم على تصريحه الذي كتبه قبل سبع وعشرين عامًا بعدما رأى أنّ “وعد بلفور”، الذي قطعه وزير خارجيّة بلاده (بريطانيا) قد استُغل أبشع استغلال؟
ويتعلق السؤال المحيّر، بسبب القطيعة المعرفيّة بين المُنجز الفلسفي لراسل، ولأمثاله من دعاة العدالة، وبين المستشرقين والساسة الانكليز المشتغلين على الشرق الأوسط وقضاياه الحارقة في القرن الماضي، قطيعة تشبه الطلاق القيمي بين الحقليْن، وهو ما يشاهد في تفصّي المستشرقين والمستعربين من الالتزام بتلك القضايا ومن الانغماس في أزماته، كما انتقَدَهم محمد أركون، اكتفاءً باللغويات والأدبيات دون أي تأثر بفلسفة العدالة والتنوير.
وعلى سبيل المثال، نتساءل هل قرأ برنارد لويس، ألفريد غيوم وبيرتام توماس وغيرهم، فلسفة راسل مُواطنِهِم؟ وان كان ذلك كذلك، فلما لم يُتَرجَم ذلك من خلال مواقف سياسيّة أو تحرّكات دبلوماسيّة لا سيما وأن جلهم كان يعمل في مصالح الخارجيّة البريطانية، وربما زوّدوا الساسة بالنصائح والتحليلات اللازمة؟ أم هل تعود جريرة هذه القطيعة على راسل ذاته الذي اكتفى بالخطابات المجردة من دون أن ينغمس، مثقفًا عضويًّا، في معضلات الشرق الأوسط التي كانت حكومات بلده طرفا فيها؟
ما أحوج انكلترا أن تنفض اليوم الغبار عن فكر هذا الرجل وأن تستلهم تراثَه الخصيب حتى تصوّب مواقف حكوماتها المتعاقبة التي أبانت عن لا-منطق فجٍّ، تَرْجَمَتْه في تبعيّة مطلقة للولايات المتحدة حتى على حساب مصالحها. ففي السّياسة الانكليزية التي تمليها هذه التبعية للغرب تخبّط واضح تغيب عنه مواصفات المنطق، كما تبدو الخطابات الشعبويّة التي تستند إليها متهافتة لا تصمد أمام أي تحليل. ولذلك كله لا بد من استدعاء كلمات راسل القويّة عساها تحرّر بعض قطاعات العقل الغربي المحتلّ وخطابه السليب.
وما يصدق على صاحب “مدخل إلى الفلسفة الرياضيّة” يصدق على غيره من الفلاسفة ذوي النزعة الإنسانيّة الذين غُيّبت أصواتهم عمدًا حتى لا يُشوش إرثُهم النضاليّ على السردية الغربية وعلى الأوهام المتهافتة التي انبنت عليها. ولعلّ السؤال الأهمّ: لماذا لا يُعتمد على هذه المواقف الأخلاقية-السياسية لراسل ولا تستحضر في هذه الأيام روحه الرافضة للظلم والاضطهاد، في حين يُتباهى بتراثه المنطقي والرياضي في انتقائية مقيتة تؤكد ما دأب عليه الغرب من ازدواجية في المعايير وانتخابٍ للمواقف بحسب الغايات والمصالح العابرة.
*نشرت في المدن الالكترونية يوم الخميس 2024/07/18
Leave a Comment