منذ بدء حرب الإبادة على قطاع غزّة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، كان شلّ آلة الحرب وإيقافها، وما زال، هدفاً بذاته، يتطلّب التركيز عليه. وذلك بعد انكشاف الوجهة التدميرية لهذه الحرب. وصمود المقاومة الفلسطينية، إذ يحسب لها في ميزان الصراع، فإنه لا يحجب أولوية وقف الحرب، إذ إنّ ما تحقّقه المقاومة من إنجازات في المنازلة يُقابله العدوّ بتجريد حملة وحشية ضدّ المدنيين، وضدّ مصادر الحياة ومظاهرها، فالعدوّ لا يعبأ بأخلاقيات الحرب. وقد نهض المشروع الصهيوني برمّته على نزعة استئصالية تُسوّغ له في ناظري أصحابه شنّ الحرب على المدنيين وعلى القرى، ومصادر المياه، وعلى البيوت ودور العبادة. والذين نعتوا نتائج هذه الحرب بأنّها نكبة ثانية، إنّما كانوا يأخذون في الاعتبار الأداء العنصري والإرهابي ضدّ المدنيين، الذي تجدّد على قطاع غزّة بعد نحو 76 عاماً من النكبة الأولى. وعليه، من المحظور احتساب أنّ هناك معركتين يجري خوضهما؛ إحداهما ضدّ المقاومة والثانية ضدّ المدنيين، فالصحيح والثابت أنّ استهداف المدنيين هو الهدف الأول والأكبر، وفي سياق هذا الاستهداف المنهجي يعمل العدوّ على إضعاف المقاومة.
وواقع الحال أنّ جملة تطوّرات دفعت البيت الأبيض إلى الإدراك متأخّراً أنّ مشاركة الإدارة في هذه الحرب تُرتّب خسارة هائلة (إضافية) على مصداقية أميركا ومكانتها في العالم، وتتسبّب في انشقاقَين، عمودي وأفقي، في المجتمع، ولدى المؤسّسات الأميركية، باستثناء الكونغرس المخترق صهيونياً، علاوة على قرارات هيئات قضائية، مثل محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، وقرار الأمم المتّحدة الاعتراف بدولة فلسطين، وتمسّك العربية السعودية بالموافقة على التطبيع في سياق وضع نهاية عادلة للصراع الأساسي بين فلسطين والحركة الصهيونية. ومن هنا، جاءت آخر مقترحات الرئيس جو بايدن وقد جرى تعزيزها باستصدار آخر قرارات مجلس الأمن، ورقمه 2735، الذي يواكب هذه المُقترحات. وقد تعاملت حركة حماس مع المقترحات بإيجابية، وأعلنت ذلك على الملأ، خلافاً لما يُصوّره وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أنّ تل أبيب وافقت على المُقترحات وأنّ الأنظار تتجه نحو حركة حماس، إذ لم يصدر عن حكومة نتنياهو أيُّ تصريح يفيد بهذه الموافقة، وربما سمع بلينكن هذه الموافقة في غرفة مُغلقة، وهو ما كان يوجب عليه الإشارة إليه بالقول إنّ هناك موافقة إسرائيلية مكتومة على المُقترحات. على أنّ “حماس” أمضت 12 يوماً في دراسة المُقترح والردّ عليه، وهي فترة طويلة جداً في ظرف عصيب سقط خلاله أكثر من ألف ضحية، من بينهم 274 في مجزرة النصيرات. ولم يتوقّف بلينكن، أبداً، عند هؤلاء الضحايا الإضافيين، ولا فعل ذلك وزير الدفاع الأميركي من أصل أفريقي لويد أوستن، الذي هنّأ السفاح وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت على المجزرة، التي أدّت إلى تخليص أربعة أسرى أحياءَ مع قتل ضابط وثلاثة أسرى، إلى جانب المجزرة في حقّ الضحايا المدنيين.
ومن الواضح أنّ جيش الاحتلال يسابق الزمن لإلحاق أكبر قدر من التدمير الإضافي وإزهاق أرواح مزيد من الأبرياء قبل التوصل إلى إطلاق النار. يأمل المرء بأن تسعى “حماس” وفصائل المقاومة إلى سباق معاكس يقطع الطريق على إرهاب الدولة الإسرائيلية، فالتعديلات التي وضعتها “حماس” محلّ نظر، وقد اعترف بلينكن بأنّ بعضها قابل للتنفيذ وبعضها غير قابل للتنفيذ، فيما قال مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض جيك سوليفان إنّ “تعديلات حماس طفيفة”، ما يعني أنّ هناك قبولاً واضحاً بالمقترحات، وهذه نتيجة جيّدة، وهي حاليا في عُهدة الوسطاء الثلاثة مصر وقطر وأميركا. وحسناً تفعل “حماس” إذا تركت هذا الأمر بأيدي الوسطاء وتقبّلت ما ينتهون إليه، وبغير حاجة للإعلان المُتكرّر عن طلب وقف إطلاق نار دائم وانسحاب كامل، إذ رغم مشروعية هذا الطلب، فإنّ الطرف الإسرائيلي يناور بالادّعاء أنّ “حماس” تضع شروطاً، وأنّ هذه الشروط تنسف المُقترحات، وقد ادّعى مسؤولون إسرائيليون أنّ تعديلات “حماس” تلغي مقترحات بايدن، وهو زعم صفيق، بدلالة ما صرّح به بلينكن بأنّ بعض هذه التعديلات معقول وقابل للتنفيذ. المشكلة تمثّلت في ما أبدته “حماس” من بطء مُبالغ فيه، ومن إدراك غير كافٍ لعامل الوقت الضاغط على أعصاب أبناء القطاع.
ويتّصل بذلك عامل آخر يتمثّل في وجوب إدراك أهمّية البيئة السياسية الإقليمية، وضرورة التفاعل المُثمر معها. فإلى جانب أغلبية الدول، تجاوبت خمس دول عربية (بينها الدولتان الوسيطتان والضامنتان) مع مقترحات بايدن، وهي مصر والسعودية والأردن وقطر والإمارات، ودعت إلى تبنّي المقترحات وتطبيقها. من المُهمّ أن تقوم فصائل المقاومة بالتجسير وتقليص أيّ خلافات مع هذه الدول، التي ستكون لها كلمتها، مع دول أخرى، بخصوص الوضع الرهيب الحالي، وكذلك، في الوضع ما بعد الحرب، وأن تستمر الاتصالات مع السلطة الفلسطينية في أجواء هادئة لهذا الغرض. وقد اقترحت الجبهة الديمقراطية تشكيل وفد مُوحّد للمصادقة على صيغة مُتّفق عليها لمقترحات بايدن، وكذلك، من أجل التفاهم الوطني على مرحلة ما بعد الحرب، وهو مُقترح وجيه، لكنّه مُتأخّر، ومن المُفيد الأخذ به عقب إبرام الصفقة، ابتداء من معالجة مسألة معبر رفح، وقد اتخذت مصر موقفاً جيّداً برفض التعامل مع قوّة الأمر الواقع الإسرائيلية في المعبر، وشدّدت على أنّ المعبر مصري فلسطيني، وستكون هناك حاجة للتنسيق مع مصر بخصوص عبور شاحنات المساعدات وحمايتها بعد الدخول إلى رفح الفلسطينية، إذ يتذرّع الاحتلال برفض مصر التنسيق معه من أجل حرمان سكّان القطاع من استلام المساعدات، وهو ما يتطلّب عملاً دؤوباً وضاغطاً بتمكين مسؤولي الأمم المُتّحدة ابتداءً، ومنظمّات الإغاثة الدولية، وإذا أمكن مُنظّمات إغاثة مصرية (لِمَ لا؟)، من تأمين دخول الشاحنات ومواكبتها في داخل القطاع، وبغير تدخّل من قوات الاحتلال. تتطلّب هذه المسائل الحياتية الحارقة إيلاءها اهتماماً أكبر من السلطة الفلسطينية وفصائل المقاومة، من أجل الحدّ من مفاعيل مسلسل الإبادة على حياة الناس؛ حرب التجويع والتعطيش والحرمان من الدواء، وهنا يكمن بُعدٌ آخر للمقاومة، كما تتبدّى واجبات السلطة في إنقاذ شعبها، وهو ما يتطلّب إنشاء خلايا أزمة؛ خلايا مهنية مُتخصّصة تعمل على مدار الساعة.
* نشرت على موقع العربي الجديد بتاريخ 15 حزيران 2023
Leave a Comment