يقظان التقي*
تتفاقم الأزمات السياسية والحياتية في لبنان على نحو كبير، فيتحوّل البلد إلى مسرح الصدى لكل الصراعات والانقسامات، مع تشابك الآليات المحلية والإقليمية والدولية. ليس فقط بسبب التدخلات الخارجية المتعدّدة، وإنما أيضا ثمرة لعبة طبقة سياسية خطرة بشكل خاص. تضاعفت عوامل اللا استقرار، والقضايا كثيرة، والحقائق كثيرة، حتى لا تحتاج الى برهان. ولكن من يهتم للحقيقة في لبنان؟ يختبر اللبنانيون قدرتهم على الـتأقلم مع الفراغ، وما زال من غير الممكن مواجهة مراكز القوى السياسية المؤثرة، مع صعوبة تصوّر أعمال مشتركة لشبكات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية والدولية، على نحو كاف، للتخفيف من حدّة الانهيارات. يصعب التصالح مع أوضاع، على نحو تهكمية سوداء ساخرة، صاغها بطريرك الموارنة مار بشارة بطرس الراعي، متحدّثا عن “ثأر السلطة، ومن أن الاتفاق مع إسرائيل أسهل من تشكيل حكومة تعنى بهموم اللبنانيين”! فقد اللبنانيون الذين تأثروا بالذكرى السنوية الثانية على انفجار 4 آب/ أغسطس، الأمل بالتزاماتٍ يجري تكرارها، تهدف إلى تحسين التوقعات، حتى في عملية مساعدة إنسانية نتيجة كارثة إنسانية غير طبيعية. مع هذا، عادت إشارات استعدادات عديدة صادرة من أوساط في الخارج عادت تحيي بعض التحوّل الإيجابي، نتيجة عجز الجهات الحكومية المحلية عن تقديم المساعدة لأهالي الضحايا، وقلة إرادتها بالوصول إلى الحقيقة.
دعوة خبراء مستقلين في الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية دولية بارزة في مجلس حقوق الإنسان إلى إطلاق تحقيق دولي “بلا تأخير”، بشأن انفجار مرفأ بيروت، تزامنا مع مرور الذكرى الثانية للكارثة، أعطت إشارات عن تدويل يتعلق بمسألة حقوق الإنسان، في واحدة من أكبر الانفجارات غير النووية في العالم، لم يفعل العالم شيئا لمعرفة سبب حصولها. عبّر خبراء في شؤون الإعدام خارج القضاء، وحقوق الإنسان والبيئة، والتضامن الدولي، في بيان مشترك، عن “الشعور بالخيبة، لأن الناس في لبنان ما زالوا ينتظرون العدالة”. لم يصل التحقيق المحلي الذي يقوده القاضي طارق البيطار إلى نتائج، مع تعليق التحقيق منذ نهاية 2021، جرّاء دعاوى رد (28 دعوى)، رفعها تباعا مدّعى عليهم من نواب حاليين ووزراء سابقين. وقع الأهالي عريضةً رفعت إلى الأمين العام للأمم المتحدة، تطالب بهيئة تحقيق دولية مستقلة بإشراف مجلس حقوق الإنسان. وسجلت دعاوى قضائية لمتضرّرين من الانفجار قدّمت في الولايات المتحدة وفي بريطانيا ضد الشركة التي استأجرت سفينة نيترات الأمونيوم.
أحيا اللبنانيون الذكرى الثانية للانفجار تحت رائحة الدخان الأسود والغبار، المنبعثين من انهيار أقسام من الأهراءات، ما يشكل دليلا إضافيا على رغبة السلطة في ردم ذاكرة اللبنانيين مع الانفجار الذي أصاب نصف مدينة بيروت، وتسبب بمقتل 220 شخصا، وجرح 6500 آخرين، ودمار أكثر من 300 ألف وحدة سكنية في مرفأ مديني متوسطي حضري. وكان الرئيس الفرنسي، ماكرون، قد هرع إلى المكان، ووعد اللبنانيين بأشياء كثيرة. ولكن بعد عامين على الكارثة لم تتحقق وعود ماكرون، من قبيل القبض على المتسببين في الانفجار ومحاسبتهم.
قيل الكثير عن الانفجار، ولكن الأفعال لم تكن بالقوة نفسها. وثمّة تساؤل عن قدرة المنظمات الدولية على تحسين فعالية الأداء والبرامج، لأن شرعية مجلس حقوق الإنسان وتوصياته في النظام العالمي تعتمد على قرارات مجلس الأمن الملزمة، والعالم يواجه ظروفا أكثر اضطرابا من الماضي، فتفقد هذه المؤسسات الجذرية الاستقلالية، وبعضها متعاقد في الباطن مع دولٍ قد تمنع الوصول إلى الحقيقة، عدا ما تثيره مسألة التدويل من قلق ورأي سلبي، عبّر عنه فريق سياسي كبير في لبنان.
لم يُنفذ شيء خلال عامين، مع صعوبة تصوّر عمل شبكات المجتمع المدني، أو القيام بأعمال مشتركة، تأخذ بالاعتبار عمل المنظمات الدولية على نحو كاف، في غياب استراتيجيات العمل كقواعد سلوك أخلاقية شاملة، تظهر إرادة التقارب مع هموم الناس. لم تتحقق العدالة، ذهب الضحايا مقابل لا شيء. التعاسة يمكن أن تمتد سنوات، ويصعب الخروج منها. يسأل اللبنانيون أحيانا، بماذا أفادت كل هذه السنوات السياسيين، حتى أصبحوا لا يفهمون إلى هذه الدرجة أوجاع الناس، بل يعمدون إلى التنكيل الذكي والممتع في تعذيبهم. من أين تلك السمة اللبنانية، من نوع التي تأتي من مختصين بشؤون الحكم، يظهرون طريقة غريبة في التشفّي من مواطنين منع عنهم جواز السفر، فيقدمون على فضيحة منح جوازات سفر لآلاف من غير اللبنانيين. إذا صحّ ما كشفته صحيفة ليبراسيون الفرنسية، فهو خلط غريب بين “زاديغ فولتير” (أو سرّ القدر)، وأدب السياسة، ومعايير أخرى، خارج إطار الشفافية المالية. يرغب القادة السياسيون في إظهار علاقاتهم مع أصحاب الثروات، والمظاهر المكشوفة، في أوج احتدام مآسي اللبنانيين.
أزمة لبنان أبعد من الانتهاكات التي يقترفها الأقوياء، ولا سيما في مجال النزاهة المالية، تفاقمت منذ العام 2006، بدأت عمليا في العام 2004 مع سنوات الرئيس إميل لحود، تفجرت مع اغتيال رفيق الحريري في العام 2005. تصعّد التوتر، وصلت الأمور إلى ذروتها في الانفجار في 4 أغسطس/ آب 2020. في كل الحالات، يكتفي غالبية رجال السياسة المتورّطين في فضائح مالية بنفي مسؤولياتهم، ولا يردّون على الاتهامات إلا بالتنديد بالمؤامرات المحاكة ضدهم، فأفقدوا البلد رصيده المادي والمعنوي. النتيجة إصابات كثيرة يتعرّض لها اللبنانيون، وكل يوم انفجارات سياسية ومالية واجتماعية، حتى ما يطاول هويّة البلد والكيان، من دون نسيان احتمالات عنصر المواجهة المسلحة بين إسرائيل وحزب الله. والأخطر تفكّك كثير من عناصر الوحدة الداخلية، مع أوضاع تباعدية، وتقسيم البلد إلى هويتين وموقعين يصعب التصالح بينهما، وينسف التسوية غير الثابتة التي أدّت إلى الوثيقة الوطنية، أي الميثاق الوطني في العام 1943، مع أن اتفاق الطائف وضع حدا للمسألة المطروحة بشأن التوسع الديمغرافي للطوائف الكبيرة.
ما يقلق اللبنانيين الآن غير الانفجار، سعي الإدارة السياسية نفسها إلى انتخاب رئيس للجهورية بعد شهرين يكون من طبيعتها الفاشلة، بنكهة مزيج عبر عنها الرئيس نبيه برّي “رئيس يتمتع بنكهة مسيحية وإسلامية ..”، والمقصود بالتوصيف الراحل جان عبيد. رفضا لشعار “كلن يعني كلن”، ورفضا لتوزيع المسؤوليات عليها بالتكافل والتضامن عن خراب البلاد. ثمّة مصطلح “القائد”، أو الزعيم، يأتي باستخداماته الدكتاتورية في القرن الواحد والعشرين، وتوافقه الصعب مع قضايا الناس، مع مبادئ الحقيقة والديمقراطية. حتى مفهوم السلطة يعني القدرة على العمل، يبدو أنه حصل تخلٍّ في هذا المجال، والأيام المقبلة أمام تحدٍّ سلبي في الطموحات الرئاسية التي من شأنها أن تعمّق مسرح الفراغ. من الصعب أن تؤمن بجهاز سياسي سيئ السمعة، وطبقة لا تقدّر حدودها الفكرية، وتراكم بهذه الطريقة أدوارها المؤذية لحياة اللبنانيين.
*نشرت في العربي الجديد في 10 آب / اغسطس 2022
Leave a Comment