زكي طه
بيروت 6 تموز 2024 ـ بيروت الحرية
كثيرة هي المعطيات التي تجعل احتمالات اندلاع الحرب الاسرائيلية على لبنان أقرب من أي وقت مضى. وهي تبدأ من عمليات القصف المتبادل بشكل متواصل منذ تسعة أشهر، واتساع نطاقها الجغرافي، وتحولها حرب استنزاف مفتوحة ومدمرة، يتخللها على نحو متكرر تجاوز لقواعد الاشتباك عبر التوسع في استخدام الاغتيالات والصواريخ والمسيَّرات والطيران الحربي. يضاف لها ارتباك الجبهة الداخلية الاسرائيلية، وتصعيد احزاب المعارضة المطالبة باستقالة الحكومة ورئيسها، بالتوازي مع ضغوط ذوي الاسرى وتحركاتهم في الشوارع، ومطالبة سكان المستوطنات الاسرائيلية في شمال فلسطين، الحكومة أن تفي بوعودها المتعلقة بتأمين عودتهم الآمنة إليها، فيما جهود الوساطة لوقف إطلاق النار مع لبنان، لا تزال متعثرة بسبب إصرار حزب الله على ربط استمرار عملياته بوقف اطلاق النار على جبهة قطاع غزّة.
وبغض النظر عن نتائج تجدد المفاوضات بشأن صفقة تبادل الاسرى. تُمهد معطيات حكومة العدو لإعلان انتهاء العمليات الحربية في مدينة رفح، والتوجه لبدء المرحلة الثالثة، التي تتضمن إعادة تمركز جيش الاحتلال في قطاع غزة، وتنظيم عمليات مطاردة ما تبقى فيه من مقاومة بذريعة تصفية حماس، بالتزامن مع إدامة الحرب غير المعلنة على الضفة الغربية بكل استهدافاتها العدوانية، من خلال تصعيد الحصار السياسي والامني والمالي ضد السلطة الوطنية في اطار السعي إلى تفكيكها. ولأن هذا الوضع يتطلب وحدات أقلّ، فإنه يسمح في المقابل لقيادة جيش العدو بنقل العديد من قطاعاته إلى الشمال، تحت راية الاستعداد لتصفية الحساب مع حزب الله ولبنان. ومحاولة استغلال التعهد الأميركي بتقديم الدعم الكامل لإسرائيل إذا وقعت الحرب، والاستفادة من التعبئة العامّة الحالية، ومن جنوح المجتمع والجيش الإسرائيلي لمتابعة الحرب إلى أن تتحقق اهدافها، التي لا ينال منها تحرك أهالي الاسرى.
وما يعزز احتمالات الحرب الاسرائيلية على الجبهة اللبنانية، تواصل التهويل المتبادل بين أركان حكومة وقادة جيش العدو وقيادات حزب الله، بكل ما ينطوي عليه من تهديدات وأنذارات، تشارك في تردادها الجهات الأممية والدولية والإقليمية، التي تتولى توصيف الحرب، والتحذير من طبيعتها التدميرية الشاملة، وخطر اتساع ساحاتها وتعدد القوى التي يمكنها المشاركة فيها، وصولاً إلى تحديد مواعيد تقريبية لاندلاعها خلال شهر تموز الجاري، وهذا ما دفع بالعديد من الدول للطلب من رعاياها مغادرة لبنان فوراً وعدم التوجه إليه أصلاً في المدى المنظور.
ارتباك الادارة الاميركية
في المقابل فإن المواقف المعلنة على ألسنة قادة سائر الدول والجهات المعنية بهذه الحرب بشكل مباشر تؤكد رفضها للحرب، وعليه، تتقاطع التصاريح والبيانات التي تدعو إلى حلول سياسية للوضع المتفجر على الحدود اللبنانية ـ الاسرائيلية، محذرة من عواقب الذهاب إلى الحرب على هذه الجبهة، نظراً لمخاطرها واحتمالات تطورها لتشمل المنطقة بأسرها، في الوقت الذي تؤكد استعدادها لها إذا حصلت. ولذلك هي تسعى لتجنب حدوثها انطلاقاً من الحسابات المتعلقة بالمصالح الخاصة لكل منها.
وفي هذا السياق فإن الادارة الاميركية الحالية لغاية الآن، وباعتبارها الجهة الرئيسية المقررة بشأن الحرب، تبدو الأكثر تشدداً في ممارسة الضغوط على الحكومة الاسرائيلية، لتجنب حصولها، لأنها تتعارض مع أولوية اجتياز الاستحقاق الرئاسي بنجاح بعد أشهر محدودة، ومحاولة التغلّب على التحديات الكثيرة التي تجعل هدف الفوز فيها عزيز المنال. ولا ننسى أنها سعت منذ الاسابيع الاولى لبدء معركة المساندة التي فتحها حزب الله ضد اسرائيل، وعبر موفدها من أجل الإبقاء عليها منضبطة تحت سقف قواعد الاشتباك، بأمل التوصل لاحقاً لتسوية تحول دون وقوع حرب شاملة على لبنان. لأن هكذا حرب الآن تفاقم ما تواجهه من صعوبات في الحصول على اصوات الجهات الاميركية المعترضة على دعمها للحرب الاسرائيلية، ومعها أصوات المسلمين والعرب الاميركيين. لكنها تعمّدت إبلاغ الجهات اللبنانية المعنية بما فيها حزب الله، بأنها قد لا تستطيع منع اسرائيل من شن حرب على لبنان، وهي بهذه الحالة لن تتخلى عن دعمها لها كما كان الامر منذ بداية الحرب التي يتشاركان أهدافها على نحو اجمالي وعلى سائر الجبهات، وهي الحريصة على عدم التفريط بحصتها من اصوات اللوبي اليهودي الاميركي، خاصة في ظل احتدام معركة الرئاسة، وما تكشفت عنه من نقاط ضعف لدى الرئيس الحالي باعتباره مرشحاً للحزب الديمقراطي لغاية الآن، في مواجهة الرئيس الجمهوري السابق الذي يتماهى مع سياسية الحكومة الاسرائيلية، مما لا يمكن الاستهانة به في تقرير نتائج الانتخابات.
مأزق الدور الايراني
في موازاة ذلك، تكرر القيادة الايرانية التزامها بعدم الدخول مباشرة في الحرب الحالية، مقابل التبني الصريح لمعارك المساندة التي تقوم بها تنظيمات محور الممانعة بقيادتها، تحت راية وحدة الساحات. وهي المعارك التي لم تحقق الغايات المرجوة منها، سواء تعلق الأمر في منع استمرار الحرب الاسرائيلية على قطاع غزة، أو إحداث إي تعديل جوهري في نتائجها التدميرية على الوضع الفلسطيني، في ظل استمرار حالة الانقسام السياسي بدعم ايراني معلن. أو لناحية اشراك ايران في الابحاث الدائرة بين الجهات الدولية والاقليمية حول ملفات الحرب على القضية الفلسطينية.
وما يعزز مأزق ايران أن قنوات التواصل الاوروبي مع قيادتها، وصيغ التفاوض غير المباشر مع اميركا، غايتها تحذيرها من مخاطر سياساتها ومطالبتها بالتخلي عنها، خاصة بشأن الملف النووي الخاص بها، وحيال دورها في الحرب الروسية على اوكرانيا، وفي أزمات بلدان الجوار وعبر تبني ودعم معارك المساندة. وهي لا تتضمن لغاية الآن البحث عن تسويات لأي من الملفات المعنية بها في المنطقة. يؤكد ذلك التصعيد المستمر للعقوبات التي تُفرض عليها، والتي تُضاف إلى ما سبقها في إطار الحصار المستدام ضدها.
ولذلك تبدو القيادة الايرانية مربكة، في ظل احتدام الصراع على السلطة وخلافات التيار المحافظ، الذي يؤكده فوز مرشح التيار الاصلاحي برئاسة الجمهورية. يضاف إلى ذلك اقتراب الانتخابات الاميركية وخشيتها من عودة الجمهوريين إلى السلطة وفوز الرئيس السابق المرشح ترامب، مقابل رغبتها في استمرار الحرب في غزة. لأن وقف الحرب الآن، أو أي اتفاق توافق عليه حماس بشأن وقف اطلاق النار في غزة بشكل مؤقت أو دائم، ينعكس سلباً على دورها، ويضع حداً لمطالبتها التنظيمات الفلسطينية التابعة باستمرار القتال في مواجهة اسرائيل. وهو ما يؤدي إلى وقف معارك المساندة على سائر جبهاتها لانتفاء مبررات استمرارها، ودون أن يعني ذلك انتصاراً لأي من قواها، التي ستكون في مواجهة التحديات التي ترتبت على معاركها على بلدانها ومجتمعاتها، في ضوء الخسائر الكبيرة التي فُرضت عليها خلافاً لرأي غالبية مواطنيها.
لكن الأهم كيف ستتعامل القيادة الايرانية وحزب الله مع تبدل أولويات الدولة العبرية الباحثة عن ضمانات تتجاوز أمن حدودها الشمالية إلى استقرار مستوطناتها بشكل دائم، في إطار حربها الوجودية التي بدأتها في قطاع غزة والضفة الغربية. ولذلك لم تتوقف عن اطلاق التهديدات حيال لبنان، قبل وطوال أشهر الحرب الحالية ضد الشعب الفلسطيني. غير أنها ومنذ اسابع عدة بدأت مرحلة الاستعداد وتحشيد القوى لمواجهة تحديات أمن جبهتها الشمالية، وفق خيارين لا ثالث لهما: إما تحقيقه عبر الطرق الدبلوماسية أو بواسطة الحرب. ولذلك لم تألُ الادارتان الاميركية والفرنسية جهدا لضمان أمن اسرائيل، عبر محاولات منع الحرب على لبنان، وتنفيذ قرار مجلس الأمن 1701، والتي عطلها ربط حزب الله معركته بوقف اطلاق النار في غزة.
الحرب الشاملة خيار مؤجل
وفي السياق نفسه، يتزامن قرع طبول الحرب على لبنان، مع توسيع نطاق العمليات الحربية على نحو غير مسبوق، وبالتزامن مع تكثيف الاتصالات التي تتولاها الادارة الاميركية مع اسرائيل. وخلالها تتعدد اللقاءات بين الموفدين الاميركي والفرنسي المكلفيْن تنسيق الجهود والمبادرات، والعمل من أجل إيجاد المخارج الصعبة لتنفيذ القرار 1701، والتي تكاد تكون مستحيلة، نظراً لصعوبة الجمع بين ضمانات الأمن لاسرائيل وفق شروطها، وبين أهداف وشروط حزب الله التي تكفل له استمرار دوره في لبنان وبلدان الجوار، وعلاقاته الخدماتية مع النظام الايراني وتأمين حضوره الدبلوماسي على طاولة التفاوض والبحث عن تسويات تكرس نفوذه.
رغم المعطيات التي ترجح قرب انفجار الحرب، ومع تكثيف الجهود الدولية والاقليمية لتنفيذ القرار الدولي، يبدو أن خطر الانفجار الشامل مؤجلاً الآن إلى ما بعد خطاب نتنياهو أمام الكونغرس الاميركي في الـ 24 من تموز الحالي، ونتائج مباحثاته مع الادارة الحالية ومع المرشح الجمهوري قبل شهرين من الاستحقاق الرئاسي. وبانتظار ذلك يتواصل تصاعد العمليات الحربية في اطار حرب الاستنزاف المدمرة على جانبي الحدود بين لبنان واسرائيل. وفي الداخل تتواصل مبادرات ولقاءات ملء الفراغ المستدام على كل المستويات، ويتجذر حكم البلد بقوة الفوضى وبواسطة سلطات الامر الواقع التي تتعمد تفيكك أجهزة الدولة التي يظللها خطاب المقاومة والسيادة والتخوين والهروب إلى الأمام بانتظار المجهول.
Leave a Comment