سياسة مجتمع

لبنان المقيم وسط مستنقع الفراغ المستدام

زكـي طـه

بيروت 16 حزيران 2023 ـ بيروت الحرية

انتهت الجلسة النيابية الموعودة لانتخاب رئيس للجمهورية كما كان مقرراً لها. المحصلة الثابتة، لا رئاسة، ولا رئيس للبلد الذي يقيم في متاهة أزماته المتعددة.  الخاسر الأول هم اللبنانيون الذين يدفعون أكلاف استمرار الفراغ الرئاسي  والحكومي، الذي بدأ يطال بقوة التعطيل المتبادل، العديد من مواقع أجهزة ومؤسسات السلطة. ونتيجة الانهيار الاقتصادي والمالي الكارثي، وسط تصاعد واتساع حالة الفوضى السياسية والاهلية على جميع المستويات، التي باتت سيدة الموقف إلى أمد غير منظور.

قوى السلطة الرابح الوحيد

أما الرابح الاول فهم أحزاب السلطة وتياراتها الطائفية، التي خاضت هذه الجولة  من صراعاتها بكفاءة عالية، انطلاقاً من مواقعها ومصالحها الطائفية والفئوية. كما نجحت في إعادة تسويق أدوارها وسياساتها وتبرير وجودها وتجديد خطابها. ما يعني أن هذه القوى لا تزال تتمتع بالقدرة الكافية التي تؤهلها لتمكين نظامها، وتكريس تحكمها ليس بمقاليد السلطة والحكم وحسب، إنما أيضاً في متابعة ما دأبت عليه من  سياسات وممارسات، قادت البلد إلى قعر الهاوية التي دُفع إليها.

هذا ما أكدته نتائج جلسة المجلس النيابي يوم الاربعاء  14 حزيران الجاري. تتويجا ً لما سبقها من سجالات ومناورات، ومن جولات التضليل والتهويل السياسي والتحريض الطائفي وتقاذف تهم التخوين، على امتداد الاشهر السابقة. بدت خلالها  البلاد، وكأنها على ابواب العودة إلى جولات الحرب الاهلية. بالتوازي مع تصاعد   الرهانات على اتفاقات اقليمية، وإدمان تحليل البيانات التي تصدر عن مؤتمرات أو لقاءات دولية، أو مواقف يحملها رُسل وسفراء من هذه الدولة أو تلك.

الثابت الاساسي بين اطراف الطبقة السياسية الحاكمة، هو الصراع على السلطة والنفوذ والسعي لاخضاع الآخر، من موقع الشراكة والخصومة في آن. ولذلك لم يكن بالأمر المفاجىء أن تنضوي  تلك الاطراف في جبهتين متنافستين ومتصارعتين من مواقعهما الطائفية والفئوية. ضمت الاولى الثنائي الشيعي وملحقاته بقيادة حزب الله،  الذي يخوض معركة فرض مرشح رئاسي لا يطعن بالظهر دور وسلاح مقاومته التي تحمي الطائفة التي ينطق باسمها من خطر التهجير المزعوم. في محاولة منه لتكريس الاستئثار بالسلطة عبر تكرار مسار معاركه الرئاسية السابقة، مستغلاً فائض قوته وتشرذم خصومه.

أما الجبهة الثانية، فقد تشكلت اضطرارياً من التيارات المسيحية بعد التوافق على مرشح مواجهة مع مرشح الثنائي الشيعي في الجلسة الثانية عشرة لانتخاب رئيس للجمهورية. أما النطق باسمها فهو موضع تنازع بين قادة تياراتها، نظراً لتباين الاهداف واختلاف الغايات والمآرب، وسعي كل منهم لتوظيف نتائجها لتعزيز موقعه ودوره.

لم يكن خافياً على قوى السلطة أنه ليس باستطاعة أي منها أيصال مرشحه إلى سُدة الرئاسة. لأنهم يدركون جيداً أن أوراق اللعبة الرئاسية ليست ملك أيديهم، بالنظر لطبيعة مصالحهم الفئوية الضيقة، التي لا مكان بينها للمصالح الوطنية المشتركة أو الجامعة للبنانيين. وهو ما يبقيها مرتهنة للخارج الذي يدرك حاجتها له، واعتمادها عليه في إدارة معاركها وصراعاتها لحماية مواقعها، على نحو يسهل معه استغلالها والتلاعب بها وفق مشيئته ومصالحه.

تصحيح شكلي للتوازنات

صحيح أن نتائج الجولة الاخيرة في معركة الرئاسة، أعادت تصويب الخلل في  توازنات منظومة السلطة من حيث الشكل. لكن الصحيح أيضاً أن الثنائي الشيعي لا يزال يمتلك القوة والقدرة على متابعة معاركه القادمة، من أجل تكريس تحكمه بأوضاع الحكم والبلد، وحماية مواقعه على نحو يصعب إلغاؤه أو شطبه من معادلة السلطة.  ما يؤهله للثبات في موقع الدفع بمرشحه سعياً منه للوصول إلى موقع الرئاسة الاولى.  ليس بقوة الاستقواء بالسلاح واستقرار العلاقة بين طرفيه وملاحقهما وحسب، إنما بفضل الخلل الذي يعتري جبهة خصومه، التي ولدت عبر عملية قيصرية اضطرارية ظرفية ليست خافية على أحد.

ولذلك سيكون من الاخطاء الفادحة الرهان على ثبات جبهة التيارات المسيحية، التي توافقت فقط على خوض معركة اجبار الثنائي الشيعي على سحب مرشحه. وما عدا ذلك فهو أمر آخر. صريحاً كان رئيس التيار الحر في القول: “أن خلافه مع حزب الله ليس حول المقاومة ودورها وسلاحها، بل هو محصور بالملف الرئاسي الذي يمكن معالجته والتفاهم بشأنه”. ما يعني أن جبهة المواجهة مع الثنائي الشيعي، كانت لقاءً مؤقتاً لا مستقبل له. ليس بفعل الحالة الصراعية بين تياراتها، ورهاناتها المختلفة والثقة المفقودة بينها وحسب، إنما ايضاً واساساً لعدم وجود أرضية مصالح واهداف مشتركة، يمكنها بالاستناد لها أن تتعامل مع أزمات البلد ومشكلاته الموروثة والمستجدة.

أما محاولات البعض تنسيب الحزب التقدمي الاشتراكي إلى تلك الجبهة انطلاقاً من التصويت لمرشحها، فإنه يقع في باب الخفة السياسية. لأن هذا التصويت كان بمثابة رسائل متعددة الوظائف برسم اطراف الداخل وباتجاه الخارج. يؤكد ذلك المواقف المعلنة والأداء الواضح لقيادة الحزب حول الاستحقاق الرئاسي. باعتباره من بين أهل السلطة،  الطرف الأكثر استشعاراً لمخاطر استمرار الفراغ الرئاسي، والاشد وضوحاً في التحذير من مخاطر خوض المعركة وفق صيغة الفرض لاخضاع الآخر أو هزيمته. ما يرشحه للإقامة المديدة عند مواقفه الداعية إلى انتخاب رئيس يستطيع المساهمة في معالجة الازمة.

مسؤولية النواب المستقلين

ومما لاشك فيه أيضاً، أن نتائج المعركة الاخيرة. قد برّزت حجم الارتباك والتخبط والعجز لدى غالبية قوى المعارضة المستقلة بمختلف تياراتها، بما فيها ما يسمى نواب التغيير والنواب المستقلون. إن لناحية مأزق الفراغ الرئاسي وقراءة معطياته واسبابه واستهدافاته. أو لناحية عدم وجود رؤية موحدة حيال سياسات المحاصصة والتعطيل والفرض بقوة الأمر الواقع وحول سبل مواجهتها. ولذلك تعددت الاجتهادات والمواقف، وساد التبسيط حول تشخيص أزمات البلد وحصر المسؤولية عنها بطرف دون غيره. ووقع الكثيرون أسرى استسهال المواجهة معه من مواقع طائفية في السلطة أو خارجها. وتوهم البعض أمكانية الفوز بأدوار  فاعلة من خلال الالتحاق بتشكيلات أهل السلطة المتصارعة، وفاتهم أن هؤلاء شركاء محاصصة طائفية – فئوية. كذلك ظن البعض أن أفضل وسائل المواجهة هي الورقة البيضاء أو اللا موقف. أما الخسائر فقد تحولت مكاسب توزعت على اطراف السلطة التي لم تتأخر عن اعلان انتصاراتها. مما يؤكد حجم الاستعصاءات التي تحيط بأزمات البلد ومشكلاته المورث منها، أو المستجد بما فيها الفراغ الرئاسي المستدام إلى أمد غير منظور.

وبعيداً عن اوهام البعض أن في امكانهم تغيير أداء قوى السلطة ودفعها لانقاذ البلد بقوة طواحين الهواء. وبصرف النظر عن موعد التسويات المنتظرة لأزمات المنطقة وحصة لبنان منها. ولأن خلاص اللبنانيين لن يتحقق في ظل استمرار الهروب من تحمل مسؤولياتهم. فإن نواب المعارضة المستقلين عن السلطة والذين صمدوا في مواجهة شتى منوعات الابتزاز والتهويل الرخيص والتهديدات واتهامات التخوين، ورفضوا الالتحاق بالاصطفافات الطائفية، مطالبون الآن بالاضطلاع بدور مبادر يستهدف إعادة لملمة صفوفهم والاستفادة من الاخطاء، والسعي إلى تجميع قوى المعارضة المستقلة بكل تياراتها وتلاوينها ومعهم كل المتضررين من استمرار الفراغ الرئاسي والانهيار، من أجل اطلاق أوسع حملة ضغط ممكن لانتخاب رئيس من خارج اصطفافات أهل السلطة، مدخلاً لإقرار اصلاحات الحد الأدنى، وإعادة الاعتبار إلى دور الدولة والعمل على تفعيل قطاعاتها ومؤسساتها، للخروج من الانهيار والفوضى السياسية والاهلية والخراب الاقتصادي والمالي المقيم.

Leave a Comment