ياسر هلال*
اتفاق الترسيم البحري مع إسرائيل ملتبس ومنقوص ومفخّخ بألغام إسرائيلية وأميركية. لكنّه بالمقابل إنجاز تاريخي، تمكّن لبنان من انتزاعه في لحظة تقاطع تطوّرات متشابكة في أسواق الطاقة، مع عوامل جيوسياسية دولية، إقليمية، لبنانية وإسرائيلية أكثر تشابكاً.
للإنصاف، فإنّ أيّ تغيير في واحد من تلك العوامل والتطوّرات، كان سيؤدّي إلى تطيير الاتفاق أو عدم طرحه أساساً للبحث. وربّما ذلك ما يفسّر “الهوس” والإصرار على إنجازه بتلك السرعة القياسية، وابتداع حلول ملتبسة، وأحياناً مستهجَنة في ترسيم الحدود البحرية. فالاتفاق كان أفضل الخيارات السيّئة، أو سلّماً يسمح بنزول الجميع عن أشجار التصعيد والحرب، وبتعطيل استغلال ثروات النفط والغاز في لبنان والمنطقة، ويشكّل محطّة مهمّة بانتظار تبلور الاتجاه في المنطقة نحو التسويات أو المواجهات. وذلك ما يستدعي من القوى السياسية إخضاع الاتفاق لنقاش موضوعي مفقود وحسّ وطني موؤود، بدلاً من أوهام الادّعاء أنّه انتصار من قبل بعضها، أو “نكد” الادّعاء أنّه هزيمة وتنازلات من قبل بعضها الآخر.
وتُثار في سياق النقاش المطلوب مسألتان رئيسيّتان هما:
– أوّلاً، المعطيات الجيوسياسيّة:
ما يستدعي التوقّف عنده قبل كل شيء هو الحماسة غير المعهودة وغير المسبوقة من قبل الإدارة الأميركية لإنجاز الاتفاق، وتوقيعه قبل انتهاء ولاية الرئيس عون وقبل الانتخابات الإسرائيلية. ويبدو واضحاً أنّ السبب يتجاوز ما يتمّ تداوله عن الخوف من تهديدات حزب الله بقصف منصّة حقل كاريش، أو الحاجة إلى الغاز الإسرائيلي لتعويض إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا. فلا حزب الله بوارد إشعال حروب، ولا غاز كاريش يكفي لتدفئة أكثر من قرية ألمانية. إذ شكّلت إجمالي صادرات الغاز من شرق المتوسط في العام 2021 أقلّ من 2 في المئة من حاجة أوروبا. ولا يمكن زيادة هذه الصادرات مع استمرار تعطيل استغلال الغاز في المياه القبرصية والتركية واليونانية والليبية بسبب النزاعات الحدودية.
وعليه قد يكون السبب الأكثر عقلانيّة هو حرص الإدارة الأميركية في هذه المرحلة على تهدئة أو تجميد بؤر الصراع الثانوية في العراق، سوريا، اليمن، ليبيا ولبنان، وإبقائها على مفترق طرق بين الحلول والتسويات وفقاً للشروط الأميركية بعد حسم الحرب الروسية الأوكرانية والاتفاق مع إيران، وبين التفجير والمواجهات المفتوحة.
جاء اتفاق الترسيم ليعكس هذا الواقع حتى في بنوده كما سنوضح لاحقاً، وليشكّل العصا والجزرة في آن. فهو قد يشكّل عنصراً رئيسياً في إنضاج حلّ متكامل للأزمة السياسية والاقتصادية في حال سارت الأمور نحو التسويات، وسيكون حزب الله ومن ورائه إيران جزءاً من هذا الحلّ وشريكاً في قطف ثماره، بعد التوصّل إلى اتفاق بشأن السلاح وحدود النفوذ الإيراني. وقد يشكّل أيضاً صاعقاً للتفجير في حال سارت الأمور نحو المواجهات.
ذلك ما يفسّر المواقف “الحمّالة الأوجه” التي أعلنها الأمين العام لحزب الله من الاتفاق، والتي تراوحت بين التأييد و”التموضع خلف الدولة”، والتشديد على ضرورة المشاركة الفاعلة للحزب أو للطائفة الشيعية في إدارة ملفّ النفط والغاز وفي أعمال التنقيب والاستخراج ، واستثمار العوائد الماليّة المرتقبة، وبين الترقّب والانتظار مع الحفاظ على “جهوزيّة المقاومة” للمواجهة و”لإعادة التموضع أمام الدولة” أو مكانها.
ينطبق ذلك على إيران التي ألقت التحيّة على أميركا بمباركة الاتّفاق من وراء الكواليس، فردّ بايدن التحيّة بأحسن منها بتحريك ملفّ تمرير دفعة على الحساب من الأرصدة الإيرانية المجمّدة في كوريا، وغضّ الطرف عن تصدير النفط إلى أوروبا عبر أطراف ثالثة، ومن وراء الكواليس طبعاً.
بين الزواريب و”الأوتوسترادات“
لكي تكتمل صورة الأبعاد الجيوسياسية والنفطية وراء الاندفاعة الأميركية لإنجاز الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل، لا بدّ من الإشارة إلى أنّه في حال سارت الأمور باتجاه التسويات، فإنّ هذه الاندفاعة لا بدّ أن تطال النزاعات الحدودية المستعصية بين تركيا واليونان وقبرص. هذه النزاعات التي تعطّل أعمال التنقيب والاستكشاف والاستخراج في مئات آلاف الكيلومترات المربّعة من المياه البحرية للدول الثلاث، إضافة إلى مساحات كبيرة من المياه البحرية المصرية والليبية.
سيدفع حلّ هذه النزاعات الشركات النفطية الكبرى، وخاصة الأميركية، إلى ضخّ الاستثمارات اللازمة لبدء الاستغلال الفعليّ لثروة الغاز. وفي هذه الحالة فقط يصبح الحديث جدّيّاً عن استخدام غاز المتوسط لتعويض جزء من الغاز الروسي إلى أوروبا. يتطلّب حلّ هذه النزاعات تغيير الموقف الأميركي والأوروبي من الصراع التركي اليوناني، باتجاه تأييد مطالبة تركيا باستعادة جزء من مياهها البحرية التي حُرمت منها لنحو 100 عام بسبب وضع جزر بحر إيجه تحت السيادة اليونانية، وبسبب الوضع الملتبس في جزيرة قبرص. وذلك أمر مرهون بحاجة أميركا إلى استمالة تركيا إلى جانبها بالكامل، في ضوء تطوّرات الحرب الروسية على أوكرانيا والمواجهة مع إيران.
ذلك هو المقصود من أنّ اتفاق الترسيم جاء في لحظة تقاطعات متشابكة في الأوضاع الجيوسياسية وفي أسواق الطاقة، وبالتالي لا داعي للاحتفالات بالانتصارات وتدبيج خطابات “تربيح الجميلة”، ومحاولات توظيف الاتفاق في الزواريب السياسية الداخلية أو “أوتوسترادات” الصراعات الإقليمية.
– ثانياً، نقاش هادئ في بنود الاتّفاق:
مع التأكيد أنّ الاتفاق كان أفضل الممكن في ضوء موازين القوى والتحالفات، فإنّ أيّ انتقاد لبنوده ومضمونه إنّما يستهدف تحصينه لا تقويضه، وعليه، هناك العديد من المسائل يُفترض توضيحها لا إخفاؤها بسيل من التصريحات وتغطية “السموات بالقبوات”، ومنها:
– المكامن المشتركة: تحت ضغط الهلع من شبهة التطبيع، في مقاربة مسألة المكامن المشتركة، سعى لبنان إلى ابتداع حلول ما أنزل الله بها من سلطان، بدءاً من الهروب شمالاً باعتماد الخط رقم واحد في الترسيم الأوّل والتخلّي طوعاً عن 860 كلم2، مروراً باقتراح الخطّ المتعرّج، وصولاً إلى “البدعة” التي ينصّ عليها اتفاق الترسيم، والقاضية باعتبار حقل قانا المشترك من حقّ لبنان بالكامل، لكن مع الاعتراف بالمقابل بوجود حقوق لإسرائيل فيه. إذ جاء في النصّ الحرفيّ: “وعلى إسرائيل أن تحصل على تعويض من مشغّل البلوك رقم 9 لقاء الحقوق العائدة لها من أيّ مخزونات محتمَلة”. ومع أنّ الاتفاق تضمّن نصوصاً واضحة لتثبيت حقّ لبنان والشركة المشغّلة بالحفر والاستخراج في البلوك 9، إلا أنّه تضمّن في أكثر من موضع إضافة شرط، أو عبارة تشكّل لغماً ينسف تلك النصوص. مثال ذلك، اشتراط بدء الاستثمار النهائي في البلوك 9 بتوقيع “اتفاقية ماليّة بين إسرائيل والشركة المشغّلة”. وهو ما يعني ضمناً فتح المجال أمامها لتعطيل بدء العمل من خلال التلكّؤ بالتوقيع، كما فعلت في حقل أفروديت المشترك مع قبرص. ويبدو أنّه لم يكن أمام المفاوض اللبناني لتجنّب هذه الإشكالية إلا المراهنة على حسن النيّة فتمّت إضافة عبارة: “يتعيّن على إسرائيل العمل بحسن نيّة مع مشغّل البلوك رقم 9 لضمان تسوية هذا الاتفاق في الوقت المناسب”.
يتكرّر الأمر في النصوص المتعلّقة بمنع إسرائيل من “ممارسة أيّ حقوق لجهة تطوير المخزونات” أو الاعتراض “على أيّ أنشطة ترمي إلى تطوير المكمَن المحتمَل، أو اتّخاذ أيّ إجراءات من شأنها تأخير تنفيذ الأنشطة”، لكن سرعان ما يظهر اللغم المتمثّل بإضافة عبارة “من دون مسوّغ”. وإسرائيل لن تحتار كثيراً في إيجاد المسوّغات حين تريد.
يُضاف إلى ذلك المشكلة المتعلّقة بمنع أيّ شركة لبنانية أو إسرائيلية أو خاضعة للعقوبات من العمل في البلوك رقم 9، وهو ما يوحي بعزم إدارة بايدن على التحكّم بهويّة الشركات المشغّلة واستبعاد أيّ شركة روسيّة أو صينية. وهو ما يخلق أيضاً مشكلة في التصرّف بحصّة شركة
نوفاتك التي آلت إلى الدولة اللبنانية، والتي يُرجّح أن تؤول إمّا إلى شركة قطرية أو إلى توتال. – المنطقة المتنازَع عليها: اللغم الأخطر الذي تضمّنه الاتفاق يتعلّق بنقطة انطلاق خطّ الترسيم، فبدلاً من الانطلاق من النقطة B1 في رأس الناقورة، تمسّكت إسرائيل بنقطة انطلاق ما يُعرف بـ”خطّ الطفّافات”. الأمر الذي يخلق عمليّاً منطقة متنازعاً عليها في البلوك رقم 10. وعلى الرغم من تأكيد الاتفاق في أكثر من موضع أنّ ذلك لن يؤثّر على حقّ لبنان بالتنقيب والحفر والاستخراج في هذا البلوك، إلا أنّ التجارب تؤكّد رفض أيّ شركة نفطية العمل في مناطق متنازع عليها.
يبقى أهمّ ما في الاتفاق هو تضمّنه نصّاً صريحاً بتسليم كلّ من لبنان وإسرائيل بأن “تكون الولايات المتحدة المرجع في تسيير المناقشات بينهما لحلّ أيّ خلافات بشأن تفسير هذا الاتفاق وتطبيقه”. وهذا يؤكّد أنّ الاتفاق هو محطّة مهمّة على مفترق طرق بين سفن الاستكشاف والحفر في حال التسويات، والبوارج والصواريخ في حال المواجهات.
*نشرت في الزميلة اساس الالكترونية في 16 تشرين الأول 2022
Leave a Comment