زهير هواري
قبل خروجه من القصر الجمهوري ووسط حشود أنصاره من “التيار الوطني الحر” أعلن الرئيس السابق ميشال عون عن استمرار المعركة مع كل من حاكم مصرف لبنان (رياض سلامة) ومع رئيس مجلس القضاء الأعلى (سهيل عبود)، ومع أحد رموز الطبقة السياسية (الرئيس نبيه بري)، وأكد أنه كان وسيظل في صميم هذه المعركة التي لا هوادة فيها، على الرغم من خروجه من السلطة وإعترافه هو، حسب عبارته الشهيرة بوضع “الدولة المهترئة”، التي أورثها لمن يأتي بعده من رؤساء، هذا اذا ظلت هناك جمهورية ومؤسسات ودولة في البلاد.
والواقع أن عون الذي سمّى بعض خصومه أو أعدائه “الذين لم يخلّوه”، لا يترك فقط البلاد إلى الفراغ السياسي والاقتصادي القاتل، بل يترك بلداً مشلعاً من جميع النواحي، يفتقد فيه الناس الحد الأدنى من مقومات البقاء البسيط، والمقصود هنا متطلبات العيش الأولية من خبز ومحروقات للتدفئة والمواصلات والكهرباء والماء والدواء والاستشفاء، وحق العمل والضمانات الاجتماعية، والحصول على اخراج القيد وجواز السفر، وحق التقاضي أمام المحاكم. والدخول إلى المدرسة والجامعة الوطنية، حيث يستطيع أبناء الفقراء والطبقة الوسطى، الحلم بتحقيق الارتقاء الاجتماعي، من خلال ما يحصلون عليه من تعليم وشهادات عليا، تخولهم الانخراط في سوق عمل داخلي أو خارجي. باختصار غادر الرئيس عون إلى الرابية وأُنزل العلم عن سارية القصر الجمهوري وأقفلت القاعات والمكاتب وغيرها من مرافق المقر الرئاسي في بعبدا. لكن “السنوات الست العجاف” لن تنتهي بخروجه من القصر، الذي حاول أن يجعل منه مناسبة لشد عصب تياره سيدفع ثمنها اللبنانيون أضعاف ما دفعوه خلال سنوات حكمه، بالنظر إلى ما آلت إليه الحياة السياسية ومؤسسات الدولة في مختلف المجالات، إلى الحد الذي يمكن معه القول إن البلاد عادت إلى ما قبل المربع التأسيسي الأول، ما يتطلب إعادة بناء شاملة لإزالة ما انتهت إليه من خراب وكوارث ومآس، ليس أقلها تفجير مرفأ بيروت وما خلفه من ضحايا وأضرار، وزوارق الموت اليومية هرباً من الجحيم الذي بشَّر اللبنانيين به، ولم يفعل ما كان عليه أن يفعله كرئيس للبلاد ومؤتمن على الدستور عبر اليمين الذي أقسم عليه في بداية عهده.
بناءً على هذه المقدمة يمكن الجزم أن النفق الذي أدخل به عون البلاد “كرمى لعيون الصهر” الوريث، ليس جديداً، وإن كانت قد ازدادت خطورته على ضوء ما يمكن أن يرافق هذا الانسداد السياسي من فوضى على مختلف الصعد، بما فيها الجانب الأمني، بعد أن باتت المؤسسات المعنية من جيش وقوى أمن بدورها تتعرض لنزف يومي في عديدها، وفي حال من الهوان، تدفعها أن تستعطي هذه الدولة وتلك لتأمين إطعام عناصرها وضباطها، وتأمين مقومات الوصول والانتقال والتحرك خارج مخافرها وثكناتها. واذا كان كل هذا بمثابة شرح يطول، فالمؤكد أن حصاد ما جرى زرعه منذ وصوله إلى الحكم يؤشر إلى أن ممارساته جعلت انتظام حياة البلاد أمراً في حكم الاستحالة. وهو ما لا يغير فيه الحديث الممجوج عن انجازات كانت خاتمتها اعتباره مع سواه الترسيم البحري مع العدو الاسرائيلي هو المفتاح السحري للخروج من الانهيار المالي والاقتصادي والنقدي. وهو ما تنكره التقارير الرصينة التي تحدثت عن مردود اقتصادي بعد 6 ـ 8 سنوات اذا ما صدقت التمينات بوجود كميات تجارية، هذا مع العلم أن الطبقة السياسية المافياوية بكل أركانها وخصوصاً تياره، بدأت بإعداد العُدة لاستنزاف هذه الثروة من خلال رفض تأسيس الصندوق السيادي خارج هيمنة قواها، واعتماد الحوكمة الرشيدة في ما يتحقق من عوائد مالية. فالمعروف أن المحاصصات بما عبرت عنه من صراعات وتوافقات التي سرت على الصغيرة والكبيرة في غضون السنوات المنصرمة وأدت إلى ما أدت إليه من شلل وفراغ في المواقع الإدارية، لا بد وأن تسري على هذا القطاع الواعد، خصوصا مع تأسيسهم العديد من شركات تقديم الخدمات التي ترتبط باستخراج وتسييل النفط والغاز وخدمة الشركات العاملة في هذا القطاع. إضافة إلى أن البلاد تفتقد البنية التحتية اللازمة لاستثمارها، بما يجعل الفائدة منها مدخلاً للانقاذ. ما سيقود لبنان بـ”النوايا الحسنة أو السيئة” للبقاء في “جورة” الوضع، والتطبيع مع اسرائيل، واعتماد خط النقل الذي يصل شرق المتوسط بأوروبا كسوق استهلاك رئيس لهذه الثروة.
والحقيقة أنه منذ أن حط الرئيس عصا الترحال في بعبدا، سعى بكل ما يملك من سلطة ومقدرات على الإمساك بزمام المؤسسات والدوائر الرسمية، مفترضاً أن النظام اللبناني رئاسياً وليس برلمانياً، والأدهى من ذلك كان تسخير هذه المرافق لخدمة مشروعه الذي وصفه بأنه استعادة حقوق المسيحيين فكان أن ضاعت حقوق اللبنانيين مسيحيين ومسلمين على السواء. هنا لن نتحدث عن تخليه عن القرار السيادي لصالح حزب الله ثمناً لايصاله إلى موقعه في عملية تعيين سافرة لا علاقة لها بالانتخاب، بمعنى أن عهد الوصاية السورية الذي انحسر بعد اغتيال الحريري الأب ومغادرة الجيش السوري استمر في تعيين الرؤساء من خلال الحزب وقواه الفائضة. كان الهم الرئيس لعون وتياره هو تأمين الخدمات للقوى التي أمنت وصوله، وهو ما يجد جذوره في ما سبق لجهة خصخصة القطاعات والمرافق في عهد الحريري الأب، فتم التركيز على قطاعات الكهرباء والطاقة والاتصالات وهي التي شغل أتباع وأنصار التيار المسؤولية عنها معظم سنوات حكمه. وعلى هامش هذه القطاعات أنشئت شركات الخدمات، التي جرى توزيع نفوذها بالتراضي بين أركان المنظومة، ونال هو منها القسم الأوفر، ما قاد إلى تهميش شركة كهرباء لبنان وإدارتها وأقسامها ومواردها البشرية واستنزاف خزينة الدولة دون مردود يذكر. هذا جانب، والجانب الموازي كان ابتداع مشاريع خارج المواصفات البيئية والجيولوجية والجدوى الاقتصادية تكلفت عبر السدود المائية مثلاً مئات الملايين من الدولارات، التي ذهبت هدرا ودون أن تحقق الحد الأدنى المطلوب منها. وكانت الحصيلة هي تبخر الوعود بكهرباء 24/24 لم يعد اللبنانيون يرونها الا في المناسبات، واعتمدوا على المولدات التي نهبتهم وفرضت أسعاراً متصاعدة فوق قدراتهم بشكل شهري، عدا أنهم افتقدوا وصول المياه إلى منازلهم. ولما كان الهدف من تلك المشاريع هو تحقيق الارباح لحساب المستثمرين والمتعهدين المقربين فقد كانت النتائج كارثية. بالتأكيد حاول عون وتياره تأمين مقومات استثنائية لمناطق هيمنته سواء عبر معمل سلعاتا أو سواه عندما عزَّ وصول الفيول إلى معامل الانتاج في الزهراني ودير عمار، لكن هذا تم بناءً لحسابات فئوية تتعلق بالامتداد السياسي، ما أدى إلى شحن الاحتقان الطائفي بمقويات اضافية. أيضاً ليس المجال متاحاً بالضرورة للعودة إلى سجلات التعيينات التي اصر عليها الرئيس، والتي جاءت ضمن دائرة العائلة والازلام وتعطيل فاعلية وصلاحيات أجهزة الدولة وحجز التعيينات القضائية وغيرها، عندما لا تسير الرياح على ما يشتهي ويرغب. وهو ما يفسر أسماء الوزراء والمستشارين والقضاة الذين شغلوا مراكز رئيسية في الادارة خلال العهد. مقابل ذلك احتفظ حزب الله بسطوته وحرية حركته عبر المرافيء الشرعية والحدود السائبة وراجت عمليات التهريب على قدم وساق. وبناءً عليه أضافت اموال الدعم المستنزفة من احتياطي المصارف ومن حسابات المودعين في المصرف المركزي المزيد من العجز والافلاس. يضاف إلى ذلك التهريب والتهرب الضريبي ما استنزف ودائع اللبنانيين التي باتت تمِّول الرواتب والأجور، وصولاً إلى الحلقة الراهنة في تعذر حصول المودعين على أموالهم حتى للضرورات الانسانية، واعتماد بعضهم على الدخول المسلح إلى المصارف لاسترجاع ما لهم من حقوق.
لا يعني كل ذلك أن التيار العوني هو المسؤول الوحيد عن افلاس البلد، بل للقول إن مشاركته المافيا ثابتة ورئيسية، وقد فاقمت الأمور عندما أدت المواقف التي تولى العهد وممثليه تغطيتها إزاء الدول العربية التي تشكل سوق طبيعي للصادرات الصناعية والزراعية إلى كارثة أصابت القطاعين، وحجزت عمليات التصدير منهما، بعد أن باتت الصادرات اللبنانية محشوة بحبوب الكبتاغون وسائر أنواع المخدرات، ما قاد إلى خسائر فادحة كادت تصل إلى تهديد مصير مئات ألوف اللبنانيين العاملين في المملكة العربية السعودية ودول الخليج. واكتمل النقل بالزعرور عندما أصم سمعه عن نداءات الهيئات الأممية والدول الغربية والعربية حول المبادرة إلى القيام بالاصلاحات الانقاذية لوقف التدهور عند الحدود التي بلغها. وساهم فريقه النيابي في تأخير الاصلاحات المطلوبة من البنك الدولي عبر تأخير اقرار الكابيتال كونترول وإعادة هيكلة القطاع المصرفي.
يتطلب تقديم جردة كاملة لمنجزات العهد العوني صفحات وصفحات، ولكن ما يمكن الخروج به أن تقدماً ما لم يحدث باتجاه معالجة الأزمة أو التخفيف من وقعها على الصعد السياسية والاقتصادية والمالية والنقدية، بل ازدادت تفاقماً ما ترك انعكاسات مدمرة على الفئات المفقرة والمتضررة في المجتمع اللبناني. وهو أمر لا يمكن علاجه باستنسابية من خلال التدقيق الجنائي بحسابات المصرف المركزي دون سواه من إدارات عامة، فالأصل في المشكلة، هو الاساس الذي بنى عليه التيار سياساته والمتمثل في تحويل الدولة ومؤسساتها إلى مجرد اقطاعة أو غنيمة يتم التصرف بها وفق ما يرتأيه أصحابها من المتسلطين والمتنفذين، وفي طليعة أصحاب الحصة الرئيسية للرئيس عون وتياره. هذا كلام لا يعفي الآخرين من المساهمة في ما وصلنا إليه من انهيار، لكن اسلوب اتهام الآخرين وتبرئة الذات والتذاكي والتشاطر واعتباره “الأمر لي” و”أنا أو لا أحد”، والتصرف وكأن البلاد تدار في ظل ديكتاتورية، واقفال الابواب أمام أي عملية اصلاح ولو كانت جزئية، كالتي يدعو إليها البنك الدولي والمراجع الأممية والدولية من أجل انقاذ هذه الطبقة وبقاء الدولة ومؤسساتها، ومواصلة عملية نهبها “المنضبط” لبلاد قادرة على الوقوف على قدميها، وتقدم خدماتها العامة بالحدود المتواضعة لمواطنيها والمقيمين على أرضها. وهو ما تبين أن دون تحقيقه الأهوال والمستحيلات بدءا من رأس السلطة، انتهاء بكل واحدة من قوى المنظومة الطبقية سواء أكانت سياسية موروثة عن المرحلة الميليشياوية، أو مالية كإدارة المصرف المركزي وجمعية المصارف وباقي “الاوليغارشية” المهيمنة، والتي باتت سيطرتها مقياساً لتركز الثروة في ايديها، بعد أن جرى نهب أجور وتعب ومدخرات معظم اللبنانيين وودائعهم. إن التيار العوني من خلال سياساته المعتمدة لم يقصر في تعميق مأزق الانهيار، تارة برفض استعادة ما للدولة من صلاحيات وحقوق وممارسة السياسة التعطيلية لمؤسساتها، وعزل لبنان عن محيطه العربي والدولي، ورفضه توقيع التشكيلات القضائية ما عطل سلطة أساسية في بنية الدولة، وطوراُ بالممارسة التي يمكن وصفها براحة ضمير كاملة أنها عملت على تعميق هوة الانهيار التي يغرق بها لبنان و”شعبه العظيم”.
Leave a Comment