ثقافة

فيلم lamb للمخرج الايسلندي “فلاديمار يوهانسون”:أسئلة تؤرق المشاهد بحثاً عن المعنى الحقيقي للعمل

يوسف اللقيس

هل تنظر الطبيعة لنا بالمنظار نفسه الذي نبني على أساسه علاقتنا معها؟ و هل لغة اللّطف و الوداعة هي المعيار الوحيد الذي يجب أن ننتهجه في بيئة غريبة لا نعرف إلا ظاهرها فقط؟

فيلم lamb من الأعمال القليلة التي تندرج تحت خانة الرعب النفسي التي تقدم أفكارًا جديدة وجريئة في آنٍ معًا، يلقي الضوء على جوانب الحياة البشرية عندما تحتك ببيئة غريبة عنها، عارضًا لنا هواجس ومخاوف البيئتين معًا، من الأعمال التي يجب علينا أن نعيد مشاهدتها أكثر من مرة كي نستخلص مضمونها .

التكلم بالرموز والمشهدية الضبابية هو من لغتي المفضلة، فلا يجب أن يكون العمل مقدمًا للمشاهد على طبق من فضة، علينا نحن سبر الأغوار العميقة و الدفينة في تلافيف العمل المعروض وتفكيك رموزه، متجنبين ما قد يظهر أمامنا من أفخاخ مدروسة الصُنع، من الممكن أن تكون سببًا في بعثرة أوراقنا، لنعود نحن ونبدأ من نقطة أخرى علّنا نستخلص مفتاحًا واحدًا فقط، نفتح به أبوابًا موصدة، فيكون تذكرة مرورنا للدخول إلى مقصد المخرج من هذا المشهد أو هذه الخاتمة ومعنى فكرته في العمل ككل، لذلك يجب ألا تنسى صديقي بأنه من الأعمال التي تُحتِّم عليك البحث عميقًا في الثقل السينمائي المعروض ومشاهدته أكثر من مرة، تبدأ بمشاهدة أولى استكشافية لنمطية العمل وبيئته الطبيعية المخيفة، وقلة حواراته المقصودة، ومغزى ادراج الطبيعة والمساحات الخضراء الشاسعة مع الطبيعة الجبلية وربطها بندرة الحوارات، والاعتماد بشكل كبير على الصورة لإيصال المعنى المُراد إيصاله والتكلم عبر المشاهد التي تقطع الأنفاس، فلعلّ هذه الأخيرة تكون أبلغ من الكلمات، ومن ثم تنتقل لمشاهدة ثانية متأنية باحثة عن المعنى و المضمون .

قصة الفيلم :

تدور أحداث الفيلم في بلدة أيسلندية نائية، وفيها يملك الزوجان ماريا (نومي راباس)، وإنغفار (هيلمير سناير غوناسون)، مزرعة ريفية، حيث يحلبان الماشية ويحرثان الأرض بكآبة وضجر ينعكسان على وجهيهما الشاحبين، وعلى أحاديثهما القصيرة التي لا تتجاوز الكلمات القليلة خلال النهار بأكمله. وفقط عندما يعتقد المشاهد أنه أمام فيلم آخر عن رتابة الحياة اليومية وتكرارها، يأتي القسم الثاني منه لينسف تلك الفكرة، إذ يُفاجأ الزوجان بوضع إحدى نعجات الحظيرة الخاصة بهما مولودًا غريبًا، نصفه بشر ونصفه الآخر حَمَل، ويقرّران أخذه في كنفهما، ليحل محل ابنتهما المتوفاة، “آدا” ويحمل اسمها أيضًاً.

لندخل عقل “فلاديمار” قليلًا و نتجوّل فيه علّنا نخرج سالمين منه ومعنا المضمون  . هناك عدة زوايا لفهم قصة الفيلم الذي أخرجه الايسلندي “فلاديمار يوهانسون”، والذي يعتبر فيلمه الروائي الطويل الأول ومن أنتاج “بيلا تار” بالتشارك مع الممثلة “نايومي راباس”.

هل كان فيلم Lamb يتحدث عن المسوخ والمجتمع، اقتداءً بما سبقه من فيلمي “رأس الممحاة” و”الرجل الفيل” للمخرج العبقري “ديفيد لينش”؟ أم أن “يوهانسون”يستكشف فقط جنون العزلة والدوافع الغريبة التي يمكن أن تأتي مع الشعور بالوحدة في وسط اللامكان؟ أم أنه فيلم بنزعة بيئية، يكشف عناد البشر ورغبتهم المستمرة في تحدي الطبيعة لأهدافهم الشخصية، إذ تعود هذه الأخيرة في نهاية المطاف لتسترد ما هو ملكها؟

ماذا كان يقصد الايسلندي في إرباك شريحة كبيرة من المشاهدين والنقاد والصحافيين في مهرجان “كان”، وتحميلهم وزر فهم المعنى والمقصود من “حَمَلِه”، و إجبارهم على الخروج من أبواب صالات العرض وعلامات الاستفهام مرسومة على وجوههم ؟ هل كان يطرح سؤالًا عن مفهوم الإنجاب، ويضعه موضع التساؤل إلى حد قد يبدو فيه مضادًا لفلسفة الإنجاب البشرية على الأقل؟ فهل رغبة الزوجين في رعاية شيء ما، هي التي دفعتهما إلى احتضان “آدا”؟ هل يدق مخرجنا ناقوس الخطر ويشنّ حملة ضدّ التعدي على طبيعة الشيء والعمل على انتزاع أحد عناصره؟ هل كان الفيلم يتحدث عن الهوية الفردية، خاصة هوية الطفل، في عالم متشدّد ومتطرّف؟ أم عن حكاية ساخرة أخرى عن التناقض البشري الذي يسمح لزوجين بتربية حَمَلٍ داخل منزلهما، ولا يمنعهما عن تناول لحم آخر، كما نلحظ في المشهد الأول من الفيلم ؟

أم كان يتحدث عن كل ما تم ذكره أعلاه تاركًا لنا معيار الإختيار كلٌّ بحسب المُعطى الذي خرج به من هذا العمل الذي تقلّ فيه الحوارات، فالصورة أشد تأثيرًا من الكلمة عبر الفيلم والأحاديث قليلة، وهي عند وقوعها لا تتجاوز ثرثرات الحياة اليومية. في حين يقدم جزءًا كبيرًا من المعلومات على شكل صور بصرية غير مباشرة. فنرى المخرج يعمد إلى إثارة حواس المرء واندفاعاته ومعها غرائزه الأولى، وربما دفعُه إلى اختبار مسألة تقع خارج حدود منظومته الأخلاقية والفكرية، حيث نرى التلاعب المقصود منه بالمشاهدين إلى الرمق الأخير، مخفيًا شكل المولود الجديد الذي لا يتكشف لأعيننا إلا تدريجيًا، وبعد مضي أكثر من نصف الفيلم يتسبب بصدمة بصرية مرعبة.

فيلم أقل ما يقال عنه بأنه رائع، قدمه لنا “يوهانسون” الجريء بخليط مكثّف وناجح من الكوميديا السوداء والرعب النفسي والدراما، ورشة اضافية وممتازة من أجواء الحكايات الشعبية والسريالية التي تعمد إلى تجميد الدم في العروق، تاركًا المشاهد في حالة من الترقب والتوتر العميقين حول ما سيحدث عبر ثلاثة فصول تحمل معها حدوث كل شيء أو لا شيء على الإطلاق .

Leave a Comment