زهير هواري
ما نعيشه اليوم مجرد تراكم متصاعد للثمن الذي دفعه اللبنانيون جرّاء ما شهدناه وعشناه معاً في غضون السنوات والعقود المنصرمة، بلوغاً إلى الكارثة التي نعاني على مختلف الصعد والمجالات. ولكن كي لا نجلد أنفسنا ننظر إلى ما حولنا في دنيا العرب فأقول إن بعض ما نكابده هو نتيجة اختلال أعمق وأقسى في الوضع العربي. وهو ما لم يكن غائباً عن رؤية كمال جنبلاط قبل نصف القرن المنصرم، بل كان بحدسه وثقافته الديمقراطية الرحبة المنفتحة يراه يقيناً وبوضوح كامل ووقف صلباً وعنيداً في مواجهته.
رابطة العروبة الديمقراطية
لقد انطلق كمال جنبلاط من رؤية محددة قوامها أن رابطة العروبة الرحبة والديمقراطية ليست رابطة برانية للبنانيين، كما للفلسطينيين والسوريين وغيرهم من شعوب ودول. وبهذا المعنى هي داخلية بقدر ما هي خارجية. باعتبارها تعبر عن تماسك داخلي، وعصب في مواجهة التحديات التي تشهدها المنطقة وشعوبها، التي ترزح تحت أثقال التخلف بمنوعاته ومندرجاته. وكل تراجع عن التزام أحكام هذه العروبة، هو عبارة عن موت سياسي واقتصادي للكيان اللبناني وكيانات المنطقة كما كتب محسن ابراهيم في ذكرى استشهاد كمال جنبلاط في آذار من العام 1984. تبدو الآن مختلف الوقائع مؤكدة لهذه المصداقية. لقد وقف كمال جنبلاط بقامته الفارعة ورؤيته التي تتجاوز الأفق المرئي، ليبني سداً أمام أنظمة الاستبداد العربية كي لا تكتسح بجبروتها الموقع الوطني الديمقراطي اللبناني . وقال لحافظ الأسد الذي كان يتحفز للدخول بدباباته إلى لبنان كلمته الشهيرة: “لن أدخل في هذا السجن الكبير”. وكان يعرف إلى أين يمكن أن تودي به هذه العبارة. الآن نقول للمعلم: لم يعد السجن سجنا كبيراً واحدا، بل سجن كبير بمعتقلات متعددة في داخله. يكفي نظرة إلى ما هي عليه سوريا الآن من معازل اميركية وايرانية وتركية وروسية، ناهيك بسجون النظام التي لا تعد ولاتحصى لندرك ما آلت إليه الأمور. والمشهد ليس بعيداً عما يعرفه عراق الرافدين من تفكك وتقاسم بين القوى الدولية نفسها مضافاً إليها فرنسا والصين وغيرهما. وفي لبنان حولت كل طائفة أبناءها إلى محاصرين داخل معازلها. فالوحدة الوطنية اللبنانية التي أراد كمال جنبلاط تحقيقها بالعلمنة، باتت مجرد أماني وأحلام. بعد أن أصبحت كل طائفة تقتطع حصتها في الإدارة العامة والجغرافية وتسيّجها، بإرادة زعيمها ومن يحيط به من زبانية. وليس أمام أبنائها وسط معالم الانهيار الشامل سوى أن “يهجِّوا” بأنفسهم وعائلاتهم إلى ديار الله الواسعة، بعد أن سقط وعلى نحو دراماتيكي ما تبقى من سقف الدولة الذي كان يظللهم. نحن نعيش ما يشبه زلزال تركيا وسوريا على صعيد اجتماعنا السياسي والاقتصادي والمالي والنقدي، لأن البناء الذي ارتكز عليه النظام تهاوى بفعل هشاشته وعجزه عن مقاومة زلازل الداخل والخارج وهزاتها الارتدادية على حد سواء.
القضية الفلسطينية والتزامها
أعود إلى لبنان قليلاً لأقول إن العروبة التي نادى بها كمال جنبلاط هي العروبة الديمقراطية العلمانية التي تتسع لكل المقيمين على امتداد هذه الارض من جموع أقليات وأكثريات وشعوب انصهرت في بوتقتها الثقافية والمجتمعية خلال قرون وقرون من التفاعل المشترك في مجالات الفكر والثقافة والعادات والتقاليد وشبكات المصالح. لذلك وقف مقارعاً هذا النمط الطاغي من الاستبداد وهيمنة القمع الأمني والمخابراتي على كل تفاصيل الحياة اليومية ومصادرة الحريات وحقوق الانسان، ما قاد إلى استباحة الكرامة البشرية للمواطنين كما هو حاصل الآن. حدث هذا من خلال المعتقلات والسجون وموجات التهجير والمنافي قريبة وبعيدة. ولعل الأكثر استباحة مما تشهده بلادنا هو ما يعانيه الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة من حروب يومية يطلقها حيش الاحتلال الصهيوني، مضافاً إليه هذه المرة ميليشيات المستوطنين التي تتوسع تحت أعين ورعاية عُتاة حكم اليمين العنصري الصهيوني. هذا في الراهن، ولكن في الاستراتيجي لم ينظر كمال جنبلاط إلى مقاومة الشعب الفلسطيني للمشروع الاستيطاني نظرة منفعة تنطلق من دعم مقاومتها للحركة الوطنية اللبنانية في سعيها نحو فرض التغيير في غضون الحرب الاهلية. كانت نظرته ورؤيته للحركة الصهيونية أشد عمقاً وأبعد من كل ذلك. فكي تستقيم الأمور للحركة الصهيونية واسرائيل على أرض فلسطين باعتبارها رأس حربة الاستعمار الحديث في المنطقة،لا بد من تفكيك هذه البلاد إلى بُناها الأصلية، بما هي طوائف ومذاهب وعشائر وأكثريات وأقليات ومناطق ومحميات وكانتونات، وهو ما من شأنه أن يجعلها تنخرط في صراعات ذاتية مدمرة، تصبح معها مسرحاً لحروب عبثية ذاتية لا تتوقف الا لتعاود الانطلاق ثانية، مدفوعة إلى ذلك بفعل عصبياتها المتناحرة، مما لا علاقة له بمواجهة معضلات الحداثة والتحديث التي يخوض فيها عالم تلك الايام واليوم. لم يدافع كمال جنبلاط بوصفه رئيساً للجبهة العربية المشاركة في الثورة الفلسطينية عن صمود الجنوب اللبناني وأهله في وجه حملات الترهيب والتدمير اليومية، وعن القضية الفلسطينية واستقلالية قرار شعبها ممثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها، منتصراً لوطنية وكيانية ونصرة قومية لشعبها، بقدر ما كان يدرك أن تلك القضية تشكل أحد نوابض المنطقة العربية للنهوض مما تتخبط به من معضلات التقدم وتحقيق الديمقراطية والحداثة وكرامة الانسان واحترام التنوع، وبالتقاطع والتفاعل مع قوى التحرر العربية والعالمية، وهي التي كان أحد أركانها الفاعلين كقائد وطني وعربي وأممي وسط عالم منقسم إلى معسكرين. لذلك كان ينطلق بمواقفه مما هو أبعد مدى من مجرد نصرة المقاومة الفلسطينية في الدفاع عن هذا الموقع اللبناني المسلح إلى نصرة هذه القضية بجوهرها، باعتبارها قضية تحرر وتحرير سياسي وانساني، وقضية حق لا مجال للاشتباه بعدالتها، ما يستوجب على كل أحرار وشعوب العالم نصرتها. من هذا المنطلق رفض كمال جنبلاط المساومة عليها والتخلي عن مساندتها مقابل إقرار بنود البرنامج المرحلي للحركة الوطنية الاصلاحية. أكثر من ذلك رأى كمال جنبلاط أن الشعب الفلسطيني هو رأس الحربة في كسر الهجمة العاتية التي تتجاوز حدود فلسطين التاريخية إلى لبنان والاردن وسوريا ومصر وغيرهم. وإلا كيف نفسر اليوم تلك الهجمة المتصاعدة والحرص على تطبيع العلاقات التي تبدأ من دول الخليج العربي وتمر على السودان وتصل حتى المغرب العربي. يحدث هذا بفعل ضغوط اميركية من خلال الفزاعة الايرانية التي استباحت بدورها المنطقة، وساهمت من خلال ايديولوجيتها وخطابها الفئوي وتشكيلاتها في تفكيك كياناتها ونسيجها الاجتماعي والثقافي ودمرت بنائها الحضاري، فيما المشروع الصهيوني مستنداً إلى صراعاتنا الذاتية المدمرة، وإلى التفكك العربي والعجز الفلسطيني يتصاعد جذرية بما يجعله يطمح إلى الاطاحة بما تبقى من مواطنين صامدين على أرضهم المحتلة والمحاصرة، وفي بيوتهم وديارهم ، في محاولة منه لتجديد جريمة التهجير الاصلي في العام 1948. ولأن كمال جنبلاط كان كيانياً وعروبياً على خلاف ما هي عليه السلطات المتسلطة بالأمس واليوم أدرك منذ وقت مبكرأن الكيان اللبناني بتعدديته وتنوعه في مقام الاستهداف الرئيسي للحركة الصهيونية ودولتها العنصرية من بين كيانات المنطقة. لقد كان دفاعه وحتى الرمق الأخيرعن فلسطين ونضال شعبها دفاعاً عن لبنان وعن كل أرض عربية، وعن حقوق شعوبنا في تجاوز الإعاقات التي تحجزها عن الدخول في العصر بإشكالياته ومشكلاته.
هناك كلام كثير يجب أن يقال في مناسبة هذه الذكرى الاليمة. ولكن عليَّ القول إن كمال جنبلاط الذي وقف وقفاته عالماً إنه يرتدي كفنه، ويضع دمه على كفه، مؤمناً بقدره الملحمي كقائد ومناضل، يستحق منا جميعاً أن نعيد قراءته، واستقراء ما عليه أحوالنا من تفكك وأعطاب، ليس من أجل استنساخ تجربة وبرنامج الحركة الوطنية التي قاد بما لها وما عليها، بل من أجل الإهتداء بدروسها، ونحن في منعطف تاريخي لعله الأخطر الذي يمر علينا منذ عقود طويلة وربما قرون، في لبنان وفي محيطنا العربي المترع بالتشققات والتصدعات، وبطبيعة الحال من جانبنا يحدونا الأمل رغم السواد بانتزاع، تجديد نهضتهنا ثانية وحقنا ببناء عالم جديد على هذا الكم الهائل من الأنقاض الجاثمة على صدورنا…
Leave a Comment