عقل العويط*
إنّه العشرون من شهر تشرين الثاني. أو الحادي والعشرون. أو الثاني والعشرون (1934).
كلّ سنة، كلّ عيد، وأنتِ بخير.
أمّا في المختصر المفيد فنحن فجّارٌ وتجّارٌ، لا نستحقّ لا صوتَك، ولا الغناء.
فجّارٌ وتجّارٌ، وصوتُكِ منّا براءٌ، والغناء.
كيف لا يكون صوتُكِ منّا براء، والغناء، آنَ لا يعود فينا موضعٌ للحبّ، وآنَ لا يعود ثمّة في بلادنا منازلُ للشعر، ولا للشعراء؟!
مع ذلك، رغم ذلك، أعترف لكِ بأنّ نسمةً كثيفةً من صوتكِ، بأنّ نسمةَ خيرٍ كثيفةً واحدةً وغفيرةً من غنائكِ، لا بدّ أنْ تكفينا لأجيالٍ وأجيال، من أجل درء اللعنات التي تمحق أرواحنا.
كوني بخير، يا سيّدتي، من أجلنا، لأنّنا، نحن، بلا خير، بعدما صرنا، يا لعارنا، ضدّ الخير؛ خائنين جاحدين مارقين تافهين مخرِّفين ممسوسين ملعونين ممروضين موبوئين متبجّحين قراصنة قليلي الذوق منعدمي التهذيب مجرمين قوّادين بيّيعي ضمائر لعّيبي كشاتبين بلا مواهب بلا قلوب بلا عقول بلا أعمار تائهين يائسين فقراء معوزين جوعى شحّاذين يتامى وقتلى مقطوعين من شجرة من غابة أشجار.
هذا كلّه صرناه، يا سيّدتي، وغيرُهُ من صنفه كثيرٌ كثير.
لكنّنا، يا للمفارقة، نتذكّر عيدَكِ، ولا ننسى تاريخ مولدكِ، ولن ننسى أن نظلّ نحبّكِ ونتمنّى لكِ العمر الطويل.
فما أجمل عمرَكِ لأنّكِ بيننا. لأنّكِ بيننا كأرزة. كجبلٍ عالٍ فوقه أرزةٌ، فوقه أرزةٌ لغابة.
فلتكن أعماركِ الآتية بعضًا من أعمار صوتكِ الّلامتناهية، خاليةً من كلِّ ضنًى ووجعٍ وزوال.
وليكن صوتُكِ علينا بركةً. وليكن لنا منارةً.
البركة والمنارة: لأنّنا فقدنا النعمة والرؤية والبوصلة والصواب والطريق.
كلّ سنة، كلّ عيد، وأنتِ بخير، يا سيّدتي.
تستحقّين ما ليس يُقاس بمقياس ولا يُزان بميزان: أعمار أشعارنا وأعمار الطفولات وأعمار البخور واللبان، وأحلام منتصف الليل، وكلّ ما يترقرق من لاوعي ينابيعنا بين الوهاد والصخور.
عيدُكِ هو العيد، وخيرُكِ هو الخير، وفضلُ صوتكِ علينا أغمارٌ وأغمار، وعلى أولادنا وبلادنا وخبزنا وزيتوننا وأحلامنا إلى دهر الداهرين آمين.
أقف في عيدكِ أمامَ عيدكِ، وأناديكِ بالخير، يا زاد الخير، يا شجرة النعمة اليتيمة في جهنّمات لعنتنا الرهيبة.
وكما يحبو طفلٌ صغيرٌ، وكما تنتصب شجرةٌ يائسةٌ في رمل الصحراء، أقف مُلِحًّا إلحاحَ غريقٍ في الخضمّ، أنْ تُكثِّري مواهبَ صوتكِ لتفيض المواهب في حياتنا وديارنا.
ولتنبسط السهول، ولتتفتّح الأودية، لاستقبال غنائكِ، وليرتفع صوتُكِ عاليًا فوق الجبال، بين الغيوم، على الغيوم، وعلى أكتاف القمر والكواكب، ولتضئ النجوم عليه، ليتردّد غناؤه في الأمكنة كلّها، وليسطع، وليشعّ، مثلما يسطع ويشعّ قنديلٌ يشتاق إليه زيتُ الأعجوبة ليصنع أعجوبة.
كلّ سنة، كلّ عيد، وأنتِ بخير، يا سيّدتي.
لكن. ماذا نهدي إليكِ، وليس عندي، ليس عندنا شيءٌ لنعيّدكِ به. ها نحن لم يبقَ عندنا شيءٌ يُعتَدّ به بين الهدايا. كنّا ننتج حنطةً لأرغفة الحبّ. لم يعد عندنا لا قمحٌ ولا حنطةُ قمحٍ ولا أيضًا الحبّ. وكنّا نتباهى بالحياة. الآن، لا حياة عندنا نحياها، ولا عيشَ رغيدًا نرغد به. وكنّا نبذّر البسمات والضوء في السهول في الجبال كما على السواحل والشرفات. الآن ها نحن لم يعد عندنا الآن بسمةٌ على المحيّا، ولا ضوءٌ في بيوتنا لنخبز به أغاني البيوت.
لقد هرمتْ خيراتنا وأفراحنا، يا سيّدتي، وغارت مواسمنا، وقحلت أراضينا، وارتجّت أساساتنا، وتهدّمت قلوبنا، وصرنا، من فرط الفجعنة والخديعة، هباءً منثورًا، وعدمًا متناميًا، أشبهَ بغربانٍ تلعق جثث الموتى في مقابر الوجود الموحشة.
وأنادي صوتكِ أنْ يظلّ صوتكِ يعيّد معنا، وأنْ لا يهشل منّا، وأنْ لا يتخلّى عنّا، وأنْ لا يكفر بنا، نحن الذين ولغنا في كلّ شرّ، وتخلّينا عن كلّ حبّ، وسفكنا بأيدينا كلّ حلم.
وأنادي صوتَكِ الذي هو رغيفٌ في كلّ آن، ولا سيّما الآن، وهنا، وقد بتنا نشتهي القمح المطحون في صناعة اللقمة والرغيف.
وأنادي صوتَكِ الذي هو نهرٌ في كلّ آن، ولا سيّما الآن، وهنا، وقد بتنا، وبات لبنان نهرًا مسمومًا بالمرّ بالعلقم الزعاف، وبات ملعونًا، كما تُلعَنُ بلادٌ بسبب فواحشنا وحفلات عهرنا وسفالات القائمين بالأمر فينا.
أيجب أنْ يسمع صوتُكِ ندائي – نداءنا هذا، ويستجيب؟
ألسنا مستحقّين ما ألمّ، وما يلمّ بنا، بسبب ريائنا وخنوعنا وكيدنا وحقدنا وأمّيّتنا وتفاهتنا وجهلنا وغرورنا وعنطزتنا وبلطجتنا وشرورنا التي فاقت كلّ تصوّرٍ وحدود؟!
ألسنا مستحقّين أنْ نتشتّت أيدي سبأ، أنْ نتفرّق كغيومٍ بلهاء، لأنّنا لم نعرف أنْ نجتمع تحت صوتكِ، ليكون صوتُكِ سقفنا وكتابنا ودستورنا وأرضنا، ومعبرًا لعودة الأبناء الشاطرين عن انتهاك السقف والكتاب والدستور والأرض؟!
وإنّنا لمستحقّون أنْ نُطرَد من البيوت، وأنْ نتبهدلَ على أرصفة الطرق، وأنْ نتشرّد على أبواب الأمم، وأنْ ننام تحت جحود السماء، لأنّنا هدمنا البيوت، وانتهكنا الأرصفة، وبصقنا على الأمم، وهتكنا أبواب السماء.
ولأنّنا أُعطِينا الخير كلّه، فاستخففنا بكلّ خير. ولبطنا كلّ خير. وبصقنا على كلّ خير.
لكنّ صوتك يغفر لنا، ويتعالى على صغائرنا، فلا يعاملنا على طريقة السنّ بالسنّ والعين بالعين.
بل قَدَرُهُ أنْ يغفر لنا. أنْ يترفّع. أنْ يعفو.
وليحمِنا صوتكِ، يا سيّدتي، من نُذُرِ الطاغوت المقبل، وليكن نجمة صبحنا في الأوقات المدلهمّة الآتية.
وأطلب من صوتكِ أنْ يرشدنا إلى سهول الرزق، إلى الظلال، إلى الحماية، لئلّا تسحقنا المطامع، وتهرسنا الويلات.
وأطلب منه أنْ يفتح لنا شرفات البيوت لتحطّ عليها العصافير، لتطير منها وتعود إليها العصافير، ولتبني فيها أعشاشها، وتكثّر ريش أطفالها، لتكون صوت الفرح والعزاء والأمل في خرائب ممالكنا المألومة.
وليكن صوتكِ المرفأ والزوارق والأهراءات والبحر.
لقد كان عندنا، يا سيّدتي، مرفأ وبحرٌ وزوارقُ وأهراءاتٌ نخبّئ فيها القمح ليكون أرغفة خبزنا في أزمنة الشدّة. فهدمنا المرفأ والبحر والزوارق والأهراءات. وها هي الأزمنة قد استفحلت وطغت وبغت، فبقينا لا أحد لا شيء، أكياسًا فارغةً لأحلام الفقراء والمهزومين.
كلّ سنة، كلّ عيد، وأنتِ بخير، يا سيّدتي.
يعزّينا صوتُكِ كما تعزّي نسمةٌ قيظَ العدم الأخرق. يمنحنا بيوتًا نرتديها، وشوارعَ نمشيها، وبلابل نهتدي بطيرانها. ويمنحنا أنْ نشهد للأطفال للشعانين فلا نتهدّم تحت سنابك اليأس، ولا نسلّم مفاتيحنا للأنبياء لجنود الأنبياء الكذبة.
ها مدننا مشلّعة، وأريافنا نكراء، وبحارنا جريحة، وموانئنا تائهة، وكتبنا يتيمة، وأيادينا ممهورة بالعار.
هل، بعدُ، ثمّة أملٌ يُرتجى منّا، ومن أرضنا، وقد صرنا – يا لهول ما صرناه – كتبةٌ وفرّيسيّين وذمّيّين وتجّار هيكلٍ وصيارفة روح؟!
فلنُوارَ، ولتُدفَنَ جثثنا المارقة في أمكنةٍ غريبة، لكي تتطهّر من رجسنا هذه الأرض، وينمو في ترابها الزعفران والخزامى، وتنمو أغاني العشّاق والحصّادين.
نهارك سعيد، يا سيّدتي، نهارك سعيد.
لو كان لي أنْ أنطق باسم الجماعة المارقة، لقلتُ إنّنا لا نستحقّ صوتَكِ ووقوفكِ للغناء.
لكنْ، فليعاملْنا صوتُك، فليعاملْنا غناؤكِ، كما تحنو أرضٌ على أشجارٍ عقيمةٍ خرقاء.
نحن فجّارٌ، وتجّارٌ، يا سيّدتي، بلا شرف. نبيع أعراضنا، وكراماتنا، وسياداتنا، واستقلالاتنا، وحرّيّاتنا، ودفاترنا، وأطفالنا، وأزهارنا، وأنسامنا، ومياهنا، وبحارنا، وخيراتنا، وكنوزنا، وأيضًا دماءنا، وأجنّتنا، وأرحامنا، من أجل أنْ نظلّ نصدّق أكاذيبنا على أنفسنا.
نحن، يا سيّدتي، لا نستحقّ كنوز الحياة التي يمنحنا إيّاها صوتُك، ولا نستحقّ وقوفكِ للغناء.
فلنُدفَن تحت سابعِ أرضٍ، وليس في هذه الأرض.
لي كلامٌ أخيرٌ أخير: لو كنتُ مُفَبركَ الشمس لاقترحتُ على الشمس أنْ تضع النظام الشمسيّ بجملته في خدمة صوتكِ، والغناء، ولجعلتُ نورَها ينبسط على هذا الصوت، فيحرس أرضنا المحروقة، ويرشدها في متاهات الظلمة الماحقة. ولتضحك هذه الشمس في عبّها، ولتضحك على المكشوف، ولتتباهَ، ولتتشاوف، إذا أوكِلتْ إليها مهمّةٌ كهذه، إذا أوكِلتْ إليها هذه الوظيفة الراقية، بدل أنْ تهرق كرامتها وهي تشرق على الحكّام والقَتَلَة والطغاة والفجّار والتجّار، على حكّامنا وقَتَلَتنا وطغاتنا وفجّارنا والتجّار، فيشارك – بذلك – نورها النقيّ طوعًا وطبعًا في هذه الجريمة اللّامحتملة.
في المختصر المفيد: نحن فجّارٌ وتجّارٌ، ولا نستحقّ لا صوتَك، ولا الغناء.
صوتُكِ براءٌ منّا. وغناؤكِ. لكنّ صوتك يعفو، والغناء.
كلّ سنة، كلّ عيد، وأنتِ بخير، يا زاد الخير، يا سيّدتي، يا فيروز.
*نشر في جريدة النهار تاريخ 21 تشرين الثاني 2022
Leave a Comment