سياسة صحف وآراء

كلمة نصر الله.. مرحلة شرعية جديدة

 وجيه قانصو*

قال حسن نصر الله كلمته، وتنفس المتوجسون من توريط “حزب الله” للبنان، في حرب تدمر لبنان بالكامل، الصعداء. أما المتحمسون لساعة صفر تحرير القدس، فقد شعروا بإحباط باطني، بأن لحظتهم الموعودة التي أعدوا لها العدة، وتيقنوا من علامات غيبية بدنوها تشبه علامات يوم القيامة، هذه اللحظة أدركوا أنها مؤجلة لزمن آخر، وستتحقق على يد رجال آخرين. أما حماس، فقد كانت كلمة نصر الله بمثابة العلامة الحاسمة التي أقنعت قادتها، أن امتدادات “طوفان الاقصى” انحصرت داخل أنفاق غزة، وأن شعب غزة هو الوحيد الذي يدفع ثمن تبعاتها وتداعياتها.

طول كلمة نصر الله الزمني، لا يعني أنه كان لديه الكثير ليقوله. بل كان يتوسع في كلمته ويستطرد ويطنب في موضوعات جانبية، ليمرر مواقف وتصريحات لا تتناغم مع نفَسِه التصعيدي ولغته الواثقة، بأن زوال إسرائيل الأوهن من بيت العنكبوت بات قاب قوسين أو أدنى. ربما لأن عملية “طوفان الأقصى” وضعت صدقية نصر الله في تحرير القدس على المحك، لأنها كانت بمثابة الفرصة التاريخية التي اعد حزبه لها العدة، منذ زمن طويل. ربما لأن عملية طوفان الأقصى انتزعت منه زمام المبادرة، وسلبته نجوميته في تهديد العدو وتهويله، بإيقاف هذا العدو على “رِجل ونصف”. ربما لأن هذه العملية أظهرت أن إخافة العدو وإرباكه، وإشعاره بالتهديد الوجودي، تتطلب أكثر من خطب ملتهبة وتهديدات كلامية لا سقف لها. وأخيراً، ربما لأن الأثمان السياسية التي سيجنيها الحزب ومعه إيران من أحداث غزة، قد تم قبضها فعلاً مقابل الخروج من قلب المشهد، والبقاء على هامشه.

لو بحثنا في كلمة نصر الله، عن المضمون السياسي، الكامن وراء النبرة الحادة وسقف تهديداته العالية، وهي لغة صارت مألوفة ومعهودة عند الجميع، وباتت دمغة خاصة به يستعملها في جميع المناسبات، أي لو نظرنا في الرسائل السياسية التي ضبطت إيقاع خطابه الاخير، لوجدنا أنها كانت متطابقة مع سياق الأداء الإيراني الرسمي، ومسانداً للصورة التي رسمتها الدبلوماسية الإيرانية منذ بدء حرب غزة.

هو إيقاع يحفظ ماء الوجه على المستوى المعنوي والأيديولوجي، لكنه يبث رسائل إلى الفلسطينيين من جهة وإلى حكومة الحرب في إسرائيل من جهة أخرى

رسالة: “لم نكن على علم، ولم نستشر ولم نُبلغ”، هي رسالة تنصل من عملية “طوفان الأقصى” والتبرؤ من تبعاتها، وعدم الرغبة في أن يكون الحزب شريكاً في معاركها وحروبها. قد يساند ويؤيد، قد يلهي العدو ويشغله بوتيرة مدروسة، وقواعد اشتباك متفق عليها مع العدو، ولو بنحو دوزنة الإيقاع الميداني وتضييق رقعة المواجهة، وعدم انجرار الطرفين إلى ردات فعل خارجة عن السيطرة. هو إيقاع يحفظ ماء الوجه على المستوى المعنوي والأيديولوجي، لكنه يبث رسائل إلى الفلسطينيين من جهة، بأن هذا أقصى ما يمكن فعله، وإلى حكومة الحرب في إسرائيل من جهة أخرى، بأننا لن ندخل في الحرب الدائرة ولن نكون جزء منها.

كان نصر الله يبث جواباً يطمئن الأمريكيين ويستجيب لتوقعاتهم

ولعل الرسالة الأهم، وهي أن عملية “طوفان الأقصى” ومعها حرب غزة، هي مسألة فلسطينية خالصة من أولها إلى آخرها. هذه الرسالة تتناغم مع المسعى الأمريكي، بعزل الحرب الدائرة في غزة وحصرها بين الفسلطينيين وإسرائيل، ومنع هذه الحرب من التوسع أو دخول قوى إقليمية على خط المواجهة العسكرية. فوراء التهديد الكلامي الذي أطلقه نصر الله للأمريكيين، وتذكيره إياهم بما حصل لهم في بيروت في ثمانينات القرن العشرين، كان نصر الله يبث جواباً يطمئن الأمريكيين ويستجيب لتوقعاتهم، بأن مشهد غزة فلسطيني وسنبقى خارجه.

هذا في الرسائل الضمنية التي كان يبثها نصر الله إلى اللاعبين الدوليين، ليسهل على الدبلوماسية الإيرانية مسعاها في الاستثمار السياسي للمشهد الغزاوي، إن لجهة حلحلة عقد الملف النووي، أو لجهة تخفيف العقوبات على النظام، لقاء خروج وكيله اللبناني من هذا المشهد.

أما الرسائل التي غابت في كلام نصر الله رغم أهميتها، فهي الرسائل المتعلقة بلبنان، كيانا وشعباً ودولة. هو غياب قد يكون متعمداً، وقد يجسد تدشين مرحلة جديدة بعد حرب غزة، لن تكون في الداخل الفلسطيني بل في لبنان. ففتح الجبهة الجنوبية مع غياب كامل لرأي أي مسؤول في الدولة اللبنانية، وتهميش متعمد للجيش وتحويله إلى مراقب حدود، وعدم الرجوع إلى مكونات الشعب اللبناني، وإشراكهم في قرار إدارة المواجهة، كل ذلك يشي بأن “ثلاثية” الجيش والشعب والمقاومة قد انتهت مفاعيلها، وباتت فاقدة الصلاحية. هي “ثلاثية” اعتمدها “حزب الله” لتأمين غطاء شرعي لسلاحه في الداخل اللبناني، أما المرحلة الجديدة فقد حرر “حزب الله” نفسه من هذه “الثلاثية” وارتقى ليعلن نفسه مصدراً وأساساً لأية شرعية مقبلة في لبنان.

*نشرت على موقع جنوبية في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023