بيروت 12 حزيران 2023 ـ بيروت الحرية
خلال الندوة التي أقامتها منظمة العمل اليساري الديمقراطي العلماني في 6 حزيران 2023 لمناسبة ذكرى رحيل الامين العام لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان الثالثة المناضل محسن ابراهيم، تحدث خلالها كل من الوزير السابق النقيب المحامي رشيد درباس وأمين سر حركة فتح وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية فتحي أبو العردات ألقى رئيس المكتب التنفيذي للمنظمة زكي طه الكلمة التالية:
يصادف اليوم مرور ثلاث سنوات على غياب رفيقنا محسن ابراهيم وهو المؤسس لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان وأمينها العام، والمبادر الاول لإعادة النظر بهويتها الفكرية وبرنامجها السياسي وصيغتها التنظيمية واسمها في ضوء المتغيرات. كما يصادف أيضا ذكرى مرور 41 عاماً على الغزو الاسرائيلي للبنان ومحاصرة عاصمته بيرت ثم احتلالها صيف 1982. وكان بالأمس موعدنا مع مرور 55 عاماً على هزيمة حزيران 1967 واحتلال كامل فلسطين وصحراء سيناء المصرية والجولان السوري. وإذا اضفنا اليها ذكرى النكبة في 15 أيار 1948 واعلان قيام دولة اسرائيل، نكون قد حددنا الاطار الزمني والسياسي لمسيرة محسن ابراهيم النضالية.
كان محسن ابراهيم مفكراً وقائداً سياسياً ومناضلا خاض تجارب ومعارك كبرى في سبيل القَضايا التي رأى أنها تستحق الالتزام والتضحية من أجلها. وأنتج خلالها كماً كبيراً من الافكار والمفاهيم والمواقف، كانت ولا تزال موضع جدل ونقاش ومادة بحث لدى المهتمين بقضايا المنطقة وشؤونها.
مبكراً رأى في المشروع الصهيوني مشروع اغتصاب استعماري استيطاني توسعي يتجاوز فلسطين للسيطرة على المنطقة واخضاعها وحجز تطورها وتحررها السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ومن موقعه الوطني اللبناني، رأي في نضال الشعب الفلسطيني من أجل قضيته، حاجز الدفاع الاول عن كل بلد عربي تستهدفه اسرائيل، ولبنان أولها.
ومبكراً أيضاً أدرك أهمية عروبة مصر من بوابة قضية فلسطين، ولذلك كانت العلاقة الاستثنائية التي ربطته مع جمال عبد الناصر، ومع جميع القادة العرب الذين رفعوا شعارات التحرر والوحدة والحرية. لكن العلاقة الأهم كانت مع ياسر عرفات قائد الثورة الفلسطينية، وكمال جنبلاط قائد الحركة الوطنية اللبنانية.
رحل محسن ابراهيم وقد سبقه أكثر القادة الذين جمعته بهم قضايا المنطقة وتجاربها. لكنه كان الأكثر جرأة بينهم جميعاً في ممارسة النقد والبحث عن اسباب وتداعيات الهزائم التي حلت بها. الثابت لديه هي القضايا والاهداف النبيلة. وما عدا ذلك قابل للمراجعة والنقد وإعادة النظر. هدفه الدائم التدقيق في النتائج وقراءة التطورات من أجل تأسيس وعي أكثر تقدماً للقضايا الانسانية والمجتمعية اللبنانية والفلسطينية والعربية. وغايته تجديد المشروع النهضوي والتحرري الوطني والقومي.
لم يتردد بعد هزيمة حزيران 1967، في قطع علاقته مع الأنظمة التي كانت تُعرف بالتقدمية، وإعلان سقوطها السياسي التاريخي. ويبادر في المقابل لقيادة التحول اليساري في حركة القوميين العرب، التي تعمّد حلَّها رغم أنه كان أحد ابرز قيادييها، بعد التزامه الخيار الاشتراكي وفكر الطبقة العاملة.
صريحاً وحاسماً كان محسن ابراهيم في الدعوة والعمل لإقامة التحالف بين الحركة الوطنية اللبنانية والثورة الفلسطينية. هدفه حماية الثورة ومشروع التغيير في لبنان. وهي المغامرة التي تحولت حرباً أهلية تدميرية بلغت ذروتها مع الغزو الاسرائيلي للبنان بتواطوء عربي ورعاية أميركية صيف العام 1982.
لكنه كان شريكاً مع القيادة الفلسطينية في اتخاذ قرار خروجها من لبنان، بديلا عن الاستمرار في القتال بلا افق سياسي. ورآه انتحاراً مجانياً دعاهم إليه بعض قادة العرب للتخلص من حضورهم المزعج.
ومع اجتياح العاصمة بيروت كان مبادراً لإعلاء راية الوطنية اللبنانية والتوقيع مع رفيقه جورج حاوي أمين عام الحزب الشيوعي، على نداء اطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانيية التي رفعت شعار التحرير والتوحيد والديمقراطية. حققت المقاومة الوطنية أنجازات كبرى وأجبرت اسرائيل على الانسحاب الاضطراري من بيروت ومن أكثر المناطق المحتله. قبل أن تحاصرها تداعيات الحرب الأهلية المستمرة وتجبرها على الإنكفاء. ولم يتأخر محسن عن المبادرة لمراجعة تجربة الحركة الوطنية والحرب الأهلية، والمسارعة إلى وصفها بالحرب العبثية، وتقرير الخروج من أوحالها والمطالبة بوقفها.
لكن المراجعة النقدية الأشمل والاهم هي التي قام بها في أعقاب الزلازل الفكرية والسياسية التي تسببت بها جملة الاحداث والتطورات العالمية والعربية، من انهيار المعسكر الاشتراكي وتفككه، إلى عودة النضال الوطني الفلسطيني إلى الداخل، وانعقاد مؤتمر السلام العربي الاسرائيلي، مروراً بمحاصرة العراق ثم احتلاله وتدميره. انتهاءً بالقرار الدولي والعربي بوقف الحرب الاهلية في لبنان، وموافقة اللبنانيين على اتفاق الطائف. وتكليف النظام السوري بالاشراف على تنفيذه. ليتولى انطلاقاً من مصالحه تنظيم الخلافات بين أهل السلطة من بوابة إعادة تشكيلها، وإدارة النزاعات بينهم حول سياسية الإعمار وسبل تنفيذ القرار 425، واستمرار المقاومة التي تولّاها حزب الله ضد الاحتلال الاسرائيلي.
لم يتاخر انفجار تلك الخلافات صراعات دموية واغتيالات سياسية طالت قادة ومسؤولين لبنانيين رفعوا راية المطالبة بإنهاء عهد الوصاية على لبنان وانسحاب الجيش السوري منه، في أعقاب الانسحاب الاسرائيلي من الشريط الحدودي المحتل.
وفي مناسبة تكريم رفيقه الشهيد جورج حاوي. غادر محسن ابراهيم إنكفاءه ليصارح اللبنانيين أولاً بالأخطاء الفادحة التي ارتكبتها الحركة الوطنية اللبنانية، عندما ساهمت في تحميل البلد من أعباء النضال الفلسطيني المسلح فوق ما يحتمل من طاقة بذريعة دعمه. وعندما استسهلت الحرب الاهلية طريقاً للخوض في مغامرة التغيير تحت وهم اختصار الطريق. وهما الخطأان اللذان كانت تداعياتهما سلبية وخطيرة على بنية البلد والحركة الوطنية واليسار في آن. لكنه حمّل قوى النظام ميؤولية سد الأفق أمام تطوير النظام، ومعه الحراك الطائفي المستعر عن هدر استحقاق تحرر لبنان من قيد الوصاية السورية الغليظ، وعن مصادرة انجاز تحرير جنوب لبنان من نير الاحتلال الاسرائيلي، وتعطيل مفاعيلهما الوطنية الجامعة.
ما أدلى به محسن ابراهيم كان بعض الخلاصات النقدية التي رأى من واجبه الوطني الإدلاء بها. كان يدرك أنه لن يجد آذاناً صاغية لدى احزاب الطوائف الممعنة في رهاناتها الخاطئة وخياراتها المدمرة.
كانت صرخته برسم قوى اليسار والحركة الديمقراطية، علّها تستدرك وتتعلّم من الأخطاء التي كلفت الكثير من الدماء. لكنها أضاعت الفرصة، واستمر أكثرها في البحث عن مواقع له في أحضان تشكيلات الطوائف التي تعرف جيداً كيف تدير صراعاتها، وكيف تنظم تحالفاتها لتقاسم السلطة والمغانم.
في مراجعاته النقدية احتل الصعيد الفكري ما يستحقه من الجهد والبحث، وحقق فتوحات في مقاربة قضايا الاشتراكية والرأسمالية والوضع الدولي على نحو لم يسبقه إليه أحد. وكان للوضع العربي وقضية فلسطين حصة وازنة ومقاربات فريدة لا تزال موضع استلهام. خاصة وأن المسار الانحداري الذي دخله الوضع العربي منذ هزيمة حزيران 1967، بلغ مرحلة تدميرية للدول والمجتمعات العربية بقوة سياسة تعميم الفوضى الاميركية الخلاقة في المنطقة منذ أكثر من ثلاثة عقود. خاصة وأن انظمة الاستبداد العربية التي قادت مجمتمعاتها إلى الاختناق، لم تتردد عن تحويل انتفاضاتها الشعبية العارمة المطالبة بالديمقراطية حروباً وصراعات أهلية تدميرية، لم تزل حتى الآن، تتوالى فصولاً من القتل والتهجير والخراب، بقوة التدخلات الخارجية الاقليمية والدولية بإدارة اميركية صريحة. لم يُفاجأ محسن ابراهيم بالتطورات الكارثية التي لا تزال مستمرة، لأنها لم تخالف التقديرات التي تولدت لديه نتيجة قراءته للاحداث.
كما لم يُفاجأ أيضاً، باستمرار توهج شعاع الضوء والأمل على أرض فلسطين، لأنه كان في موقع المتابعة ليوميات وتفاصيل المسيرة النضالية لشعبها، ولشؤون وشجون قضيته الوطنية على غير انقطاع، مع قائد ثورتها ورئيس سلطتها الوطنية الشهيد ياسر عرفات، ثم مع الرئيس أبو مازن. وهي القضية التي اصبحت استعصاءاً عصياً على الشطب أو التبديد، بقوة تضحيات الشعب الفلسطيني وهو يصنع تاريخه ويكتبه بالدم، وبحصانة وحدته وقراره المستقل وبقوافل الشهداء والاسرى في مواجهة الاحتلال والاستيطان وفي الاستقواء على خلافات الفصائل والتنظيمات، في ظل قيادة تعرف كيف تقاوم وتفاوض ولا تستسلم. وهي تواجه الضغوط الاميركية والعربية وتدير ظهرها لمشاريع الوصاية والشعارات الواهية من هذا النظام أو ذاك الحزب.
رحل محسن ابراهيم وترك لنا قلقه العميق حول مستقبل ومصير لبنان. وهو المدرك أن الأزمة اللبنانية بدأت مع تاسيس الكيان، وهي مستمرة بقوة أخطاء اللبنانيين وخطاياهم، من هم في مواقع السلطة أو المعارضة. وهو الداعي لأن يتحصن اللبنانيون باتفاق الطائف لأن بديلا له لم يولد، ولن يولد في ظل استمرار استقالتهم من مسؤولياتهم عن النضال من أجل الحصول على حقوقهم وصياغة مستقبلهم ومصيرهم.
وأحزاب الطوائف لم ولن تبني وطناً لا مصلحة لها فيه. والخارج لن يقيم لنا دولة لا يريدها حكامه، ولا يناضل من أجلها اللبنانيون الذين لم يتعلموا من أخطائهم. وفي طليعتهم دُعاة المعارضة المستقلة وقوى اليسار والديمقراطية الذين يكتفون باطلاق الشعارات العامة، والتغني بأمجاد كانت، وضاعت أثناء بحثهم عن مواقع لن يعثروا عليها لدى أحزاب الطوائف، وهي تخوض معاركها وتُعلي رايات انتصاراتها على الوطن الذي تعتبره مزرعة تحقق من خلالها نهب مقدراتها واستغلال عرق أبنائها.
ورغم تاخر عودة المنظمة إلى ميادين الممارسة السياسية والنضال الاجتماعي الديمقراطي. إلا ان أبا خالد كان حاسماً في ضرورة عودتها، وهو الذي لم يبحث عن دور له خارجها أو بالاستقلال عنها. لأنه كان على قناعة راسخة أن أدوار الأفراد مهما بلغت كفاءتهم، لا تكتسب أهميتها وفاعليتها إلا بالعلاقة مع الموقع الذي تصدر عنه في إطار حركة المجتمع.
ونحن نتابع مسيرة تجدد المنظمة التي شارك محسن ابراهيم في تأسيسها نكتشف كل يوم أهمية الإرث الغني الذي تركه لنا في شتى ميادين الفكر والسياسة والنضال الاجتماعي اليساري والديمقراطي. ومدى حاجتنا للعودة له والاستفادة منه، لتسريع الخطى في سبيل الإنقاذ الصعب، ومتابعة السير في مغامرة التغيير الديمقراطي والاجتماعي الأصعب، وهما الطريق الوحيد لخلاص اللبنانيين.
رحل محسن ابراهيم في الزمن الصعب والمصير المجهول. زمن غياب السياسة النبيلة وانعدام رجال الدولة والفراغ في جميع مواقع السلطة. زمن الفساد السياسي والعهر الطائفي وثقافة النهب والتعطيل والاستقواء بكل الأسلحة المتاحة دون أي رادع سياسي أو وطني أو اخلاقي. الاستعصاءات الداخلية تجاوزت الفرغ الرئاسي وموقع لبنان وهويته الوطنية، لتطال فكرة ووجود الدولة الوطنية الجامعة وحاجة اللبنانيين لدورها ومؤسساتها. وهي قضايا لن تجد حلولاً لها في الاتفاقات الاقليمية ومقررات القمم وقرارات التطبيع بين انظمة الاستبداد.
ولأن الاوطان والدول لا تبقى إلا بإرادة وجهد مواطنيها، فإن التحدي الذي يواجهنا كلبنانيين، وتحديداً اليساريين الديمقراطيين والليبراليين والعلمانيين والناشطين وجميع النواب المستقلين والتغيريين حقاً، يتمثل في المبادرة إلى تنظيم النقاش والحوار فيما بيننا من أجل تأسيس حركة معارضة ديمقراطية لبنانية تعددية وفق برنامج الحد الأدنى لإنقاذ لبنان، وإعادة بناء دولته الواحدة، كي يبقى للبنانيين وطن ومستقبل.
ختاما، وفي ذكرى رحيله نحن رفاقه واصدقاؤه لا يسعنا اليوم وكل يوم سوى توجيه التحية للشعب الفلسطيني في نضاله على ارضه كي يكون له دولة في وطنه. ولجميع اللبنانيين في لبنان والخارج الذين يحلمون ويناضلون من أجل بقاء لبنان وطناً لجميع ابنائه. والتحية إلى جميع من تشاركنا معهم مسيرة النضال من أجل التحرر والحرية والديمقراطية والعلمانية وفي طليعتهم محسن ابراهيم.
Leave a Comment