* سمير العيطة
مهما كان الموقف في مناهضة السلطة القائمة في سوريا ومسؤوليّتها في ما آلت إليه البلاد والمطالبة بالمحاسبة عن الجرائم والانتهاكات، لا بدّ من التوقّف لحظة عمّا تأخذ إليه السياسة الأمريكيّة اليوم، أو بالأحرى اللا سياسة الأمريكيةّ تجاه سوريا وما يحيط بها.
في الوقت نفسه الذي تمثُل فيه إسرائيل أمام محكمة العدل الدوليّة بتهمة الإبادة الجماعيّة وتمنع الولايات المتحدة أيّ قرار من مجلس الأمن يُلزِم إسرائيل بوقف حربها على الفلسطينيين، يتمّ بسهولةٍ كبرى وإجماعٍ مريبٍ إقرار قانونٍ في الكونغرس الأميركي تحت عنوان “قانون منع التطبيع مع نظام الأسد”، مع الإشارة إلى أنّ مشروع القانون ينبغي أن يحظى بموافقة مجلس الشيوخ والرئيس الأمريكي لكي يصبح نافذاً.
هذا المشروع الجديد يُعدِّل القانون المسمّى “قيصر” ويُمدّد مدّته حتّى 2032 ويذهب إلى ما هو أبعد من المصرف المركزي إلى منع التعامل مع “الحكومة السوريّة”، أي مع مجمل مؤسسّات الدولة السورية، وإلى معاقبة الأفراد السوريين المرتبطين بهذه الدولة، أو يتعاملون معها وأعضاء عائلاتهم، حتّى يثبتوا هم براءتهم وليس العكس. كما يعاقب المشروع غير السوريين الذين يتعاملون مع المؤسسات والأفراد في سوريا، بمن فيهم الحكومات والشركات والأفراد في الولايات المتحدة وغيرها من الدول. ويلزِم المشروع الرئيس الأمريكي جو بايدن بتقديم تقارير عن التصرّفات الدبلوماسيّة والتجارية والمالية تجاه سوريا ليس لروسيا وإيران وحسب، بل أيضاً لتركيا والإمارات ومصر والأردن والعراق وعُمان والبحرين والكويت والسعودية وتونس والجزائر.
انتهاك الدستور الأمريكي
يُقال أنّه كان لبعض السوريين-الأمريكيين المعارضين دورٌ كبير في الوصول إلى نصّ المشروع الجديد والتصويت عليه، بالتعاون مع مجموعات ضغط أخرى، إيرانيّة معارِضة وغيرها.. كلّ هذا برغم المناخ الثقيل للحرب على غزّة. لكنّ إقراره أدّى إلى انقسام عميق حوله، خاصّةً ضمن الأوساط المعارضة والمدنيّة السوريّة. ذلك أنّه سيؤدّي لازدياد معاناة السوريين في جميع المناطق، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر. واللافت للإنتباه أنّ الدول المعنيّة بالرقابة الأمريكيّة وبالمعاقبة المحتملة على تعاملها مع الدولة السوريّة، لم تنشُط كثيراً لمواجهة ما يشكّل انتهاكاً لقرارها السيادي ومصالحها وشؤون مواطنيها، إلاّ نادراً، لا مباشرةً من سفاراتها ولا عبر مجموعات ضغطها في واشنطن، وهي نافذة. ويُحكى أنّ تركيا والبحرين كانتا الدولتان الوحيدتان اللتان أبرزتا معارضةً قويّة.
لكنّ أشدّ الاعتراضات صدرَت من منظّمات مدنيّة أمريكيّة، لما يُشكّله هكذا نصّ من انتهاك للدستور الأمريكي والحقّ بالبراءة حتّى تثبت الإدانة والفصل بين شخص المتّهم وشخص أفراد أسرته. كما جاءت أكثر الاعتراضات وقعاً من دبلوماسيين أمريكيين سابقين، شديدي العداء للسلطة السوريّة، لكنّهم بعثوا رسائل إلى الكونغرس يُحذّرون فيها من وقع العقوبات الأمريكيّة الكارثي على المواطنين السوريين، بمن فيهم الطبقة التي كانت وسطى وأولئك المتواجدين خارج مناطق سيطرة السلطة، بالتوازي مع توجّه مجمل المساعدات الدوليّة حالياً إلى الانحسار الكبير. وعلى نقيض توجّه مشروع القانون الجديد، ينصَحون بأنّه “يمكننا أن نبدأ بمساعدة السوريين العاديين بشكلٍ أفضل عندما نُدرِك الضرر الذي تسبّبه عقوباتنا الحالية ونفكِّر في طرقٍ أفضل لمساعدة السكّان، مثل محاولة الاستفادة من تخفيف العقوبات لزيادة الرقابة الخارجية على صرف تدفّقات المساعدات الإنسانية المتبقية في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة في سوريا”.
بالتأكيد لا ترقى هذه الاعتراضات إلى مستوى التضحية بالنفس الذي بذلها آرون بوشنيل، الجنديّ في سلاح الطيران الأمريكي، الذي لم يرضَ أن يكون شريكاً في جريمة الإبادة بحقّ الفلسطينيين (وبالمناسبة لم تقُم وسائل الإعلام الأمريكية بتغطية إحراقه لنفسه إلاّ هامشيّاً وبحياء)، لكنّها تبقى رسائل صريحة بما فيه الكفاية أنّ الولايات المتحدة قد خرجت حتّى عن منطق الحقوق المدنيّة والإنسانيّة.. والسياسة.
الوقت الضائع
من الواضح في واشنطن أنّ الإدارة الديموقراطية الحالية ضعيفة، لا تهتمّ سوى بصراعها الطويل الأمد مع الصين، وقليلاً مع روسيا عبر أوكرانيا. أمّا العالم العربي ـ والشرق الأوسط ضمنه ـ فيبدو أنّها تَرَكَت الأمور فيه لنتنياهو، كي يقرّر ما يشاء.. وليس فقط في غزّة.
وفي ظلّ الصراع الانتخابي المحتدِم على الرئاسة القادمة والأموال الكبيرة التي تُنفَق عليها، والاحتمال الكبير لعودة دونالد ترامب، تنفلِت مجموعات الضغط من جميع الجهات، وخاصّة الصهيونيّة منها، للعب أوراقها في “الوقت الضائع” لخدمة مصالح الدول التي تؤيّدها.
بالنسبة لسوريا ومشروع قانونها، يبرُز في النصّ تخوّف “المشرّعين” ممّا يُمكِن أن يقوم به رئيسٌ قادم. كما يبرُز أيضاً محاولة إغلاق مجال الدبلوماسيّة والسياسة، ليس فقط من قبل الولايات المتحدة، بل أيضاً من قبل حلفائها في المنطقة. واللجوء إلى التهديد الواسع بعقوبات… حسب قانون أمريكي من دون محاكمة. ومن اللافت للإنتباه أيضاً أنّ التهديد لا يطال سوى دول المنطقة وليس دولاً أوروبيّة وعالميّة أخرى ما زالت تحتفظ بعلاقات دبلوماسيّة وتجارية مع سوريا.. الدولة.
تزعُم المجموعات التي تضغط لإقرار القانون أنّه “يسدّ ثغرات قانون قيصر التي يستفيد منها النظام”. وكأنّ الأمر “شطارة”. في حين أنّها تعرف جيّداً أنّ العقوبات العامّة وعلى مؤسسات الدولة أنّهكت المجتمع السوري إلى درجة تبديدِه، وفي جميع المناطق. فالسوريّون يفرّون إلى الخارج حتّى من مناطق “الإدارة الذاتية” المحميّة أمريكيّاً والمعفيّة من العقوبات. وهذه المجموعات تعرف جيدّاً أنّ كلّ هذا سيأخذ إلى تكريس انقسام سوريا بشكلٍ أعمق. كما بات واضحاً أنّ العقوبات على الأفراد زادت من ترابط هؤلاء مع السلطة القائمة في وحدةٍ مصيريّة، ممّا زاد من شراسة الاستبداد والاستغلال.
إنّ تلك المجموعات تعي أنّ الإغلاق التام على الدولة السوريّة سيأخذها للارتهان كاملاً لإيران وروسيا، لأنّ لا مخرج لهذه الدولة غير ذلك. كما تعرِف أنّه عندما تأتي العقوبات الأمريكية الأحادية الجانب بقانون وليس بأمرٍ إداري، سيخضع رفع هذه العقوبات، حتّى لو “سقط النظام”، لضغوطات على “النظام” الذي سيليه. هذا دون الحديث عن الصراع بين مجموعات الضغط الأمريكية حينها. والعراق أفضل مثال على ذلك.
متاجرة بلقمة السوريين!
لكنّ السؤال الكبير هو ما فائدة هذا المشروع أمريكيّاً؟ فهل سيأخذها الأمر إلى فرض عقوبات على الدولة السعودية أو الإماراتيّة، أو على مواطنيها وشرِكاتها؟ علماً أنّ البلدين يحتويان على أعدادٍ ملحوظة من السوريين، الذين يعملون ولهم عائلات ومصالح في سوريا؟ أم أنّ المستهدف ضمناً هما لبنان والعراق، المرتبطان ارتباطاً عضويّاً مع سوريا، بغية إبقائهما في “فخّ الهشاشة” الذي غرق كلاهما فيه؟
ما الذي يأخذ الولايات المتحدة لتنزَع كلّ الوسائل السياسية والدبلوماسيّة في تعاملها مع سوريا، ولتهدّد بسلاح العقوبات المنطقة برمّتها، وخاصّةً تلك الأكثر ضعفاً المحيطة بسوريا؟ هذا في حين أضاعت، هي كما السلطة السوريّة، وكما دول الجوار فرصةً نادرة حين حدث الزلزال السوري في 6 شباط/فبراير 2023. أهو تمهيدٌ لما تنويه إسرائيل بعد انتهائها من الإبادة الجماعيّة؟ وتهديدٌ بأن ينفلت جنون قادتها إلى ما هو أبعد بكثير؟
إنّ مشروع قانون “قيصر 2.0” يعني نهاية قرار مجلس الأمن 2254 وإنهاء آليّة جنيف، لأنّ التفاوض هو مع الدولة السورية. ولا معنى للتغيير والمحاسبة إذا كان ذلك على حساب لقمة السوريين وسيادتهم على أراضيهم.
*سمير العيطة : رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية؛ رئيس منتدى الاقتصاديين العرب.والمقال نشر بتاريخ 4 آذار 2024/ مارس على موقع 180
Leave a Comment